الا يكفي هذا الانحدار لإنقاذ جامعة صنعاء؟!!!

السبت، 6 سبتمبر 2014

حوار الاديان


تجربة الشيخ عبدالله علي الحكيمي


 في حوار الكنيسة البروتستانتية  سوث انجلترا عام 1949م *


تمهيد

 

للحكيمي في بريطانيا تجربة رائدة في الحوار مع رجال الدين المسيحي في نهاية النصف الأول من القرن الماضي، خلال وجوده للمرة الأولى والثانية  بكاردف ما بين عام 1936 ــ 1952م اذ أسلم على يديه أكثر من 500 شخص من البريطانيين، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية اعتمد على الولوج المباشر إلى قساوسة ورهبان الديانة المسيحية والتحاور معهم وفق معيار العقل والمنطق من خلال الاستشهاد بنصوص من معتقداتهم، وفق منهج خاص اعتمده في لقاءاته المتكررة معهم والتي كانت تقوم على: تلقي السؤال ومن ثم الإجابة عليه بالأسانيد والبراهين من خلال معرفته الشاملة بكل من الدين الإسلامي والدين المسيحي، مسترشدا بنصوص من الإنجيل والآيات القرآنية، بصورة تجعل منه في نظر المسيحي مسيحيا أكثر منهم، وفي نظر المسلم فقيهاَ ومرشداً.

وفي كل الأحوال جعل من المنطق والعقل أساسا جوهريا في خطابه الحواري متجاوزا لنزعة التعصب الديني القائم على لغط الحوار والإقناع (إما القناعة بإرادتك أو القناعة بغير إرادتك)، المهم أن تقتنع بما أنا مقتنع به، وهنا تسقط لغة الحوار إلى لغة الإقناع الملزم لك قبل أن نتحاور.

للحكيمي تجربة حوار رائدة سجلت عبر كتاب ضم 45 سؤالا بإجاباتهم عرف بـ (كتاب الأسئلة والأجوبة بين المسيحية والإسلام) بالردود عليها و كتاب (دين الله واحد) حاول فيه أن يلخص الموضوعات الأساسية لحواره مع القساوسة والرهبان ويفرضها بالمناقشة بالموضوعات التالية:

اعتقاد المسلمين بالله، وبمحمد عليه الصلاة والسلام، والبعث بعد الموت، وتساؤلاتهم عن اعتقاد المسلمين بألوهية المسيح ونبوته، وتعدد الزوجات، والطلاق، وحجاب المرأة. وجاءت ردوده على كل تلك التساؤلات في إجابته على الرهبان والقساوسة. وفي هذا يشير بضرورة الاعتراف لأولئك الأصدقاء الأفاضل من القساوسة والرهبان، وغيرهم من رجال ونساء الدين المسيحي، فقد كان لهم السبب الأول في تحفيزه على تأليف كتابين. لما دار بينهم وبينه من بحوث دينية قيمة، كانت كثيرة ومتتابعة وعلى غاية من الأهمية، (وكم مرة دعيت إلى محلاتهم الدينية لإلقاء محاضرات في الدين الإسلامي، والإجابة على ما يوجه إلىّ من أسئلة، وكم من مرة حضروا إلى مركزنا الإسلامي في مسجد نور الإسلام للغرض نفسه).

    لقد اتبع الحكيمي في حواره أسلوبا  ومنهجا خاصا به، مما يدل على سعة الاطلاع على تراث من يحاورهم ومعرفة كاملة بما يعتقدون، دون المساس بمشاعرهم.

    في الوقت الذي كانت الجالية الإسلامية تمر بأصعب الظروف آن ذاك فالعداء للدين الإسلامي وانتشار وعي زائف ومفاهيم خاطئة عنه، ونظرة التعالي لدى القساوسة على معتنقي الدين الإسلامي تعم بريطانيا في تلك الفترة، لكن استخدام العقل والمنطق كما يرى الحكيمي قد أفضى إلى تخفيف حدة الهجوم على الدين الإسلامي والجالية الإسلامية نتاجا للحوار الذي قام به.



منهجيته في الحوار

يلخص "الحكيمي" منهجيته في تحاوره مع رجال الدين المسيحي بجدلية التبادل "لما دار بيني وبينهم من بحوث دينية قيمة، كانت كثيرة ومتتابعة وعلى غاية من الأهمية  وكم مرة دعيت إلى حملاتهم الدينية لإلقاء محاضرات في الدين الإسلامي، والإجابة على ما يوجه إلى من أسئلة ذات بال وكم مرة حضروا إلى مركزنا الإسلامي في مسجد نور الإسلام للغرض نفسه للغرض نفسه، والانجليز من عاداتهم بل من طبائعهم المرونة والبحث والاطلاع، مع رحابة الصدور وحسن الأدب والاقتناع بالأدلة والحجج، وأكثر ما يقتنعون به الدليل المنطقي. ولما كانت بحوثهم تدور حول الإسلام والعقائد الدينية بوجه عام وحول ألوهية السيد عيسى المسيح عليه السلام ونبوته بوجه خاص فقد رأيت أن لا أدع تلك البحوث القيمة تذهب هباءً منثوراً. "(1/ ص ي).
ويشير في كلمته التي ألقاها أمام جمعية الرجال المسيحيين إلى "إن الأديان مهما اختلفت في نظر المتدينين فإن "الدين عند الله واحد، والله وحده هو الذي يستحق عبادة الخلق دون غيره".

من تلك المنطلقات يبدأ حوارية الأديان لدى الحكيمي من سماحته في النظر لجميع الأفراد على اختلافاتهم ففي كتابه "دين الله واحد" يهدي عمله إلى "إخواني الأعزاء من بني الأسرة الإنسانية على اختلاف طبقاتهم ونحلهم ومذاهبهم الرجال والنساء" ويضيف "إن حبي العميق لأسرتنا الإنسانية هو الذي ألهمني ودلني على القيام بتأليف هذا الكتاب" ويضيف :  "والذي أملكه هو الرغبة في أن يؤلف الله بين قلوب أبناء هذه الأسرة الإنسانية التي خلقها الله من نفس واحدة .. حتى يعيش الجميع إخواناً سعداء يسودهم الحب والوئام"(1/ ص ص) .
ويعد "دين الله واحد" نتاجا لحوار "الحكيمي" مع الكنيسة البروتستانتية "من الوفاء على أن اعترف لؤلئك الأصدقاء الأفاضل من القساوسة والرهبان وغيرهم من رجال ونساء الدين المسيحي ، فقد كانوا هم السبب الأول في حفزي على تأليف هذا الكتاب " دين الله واحد".(6)
كان من دعاة الانفتاح والتعامل مع الديانة المسيحية والمجتمع الديني البريطاني. سيما بعد أن تكون لديه قناعات إيجابية تجاه الإنجليز وقبولهم لمبادئ الحوار وإخضاعهم بالمنطق. ويرجع أسلوبه ومنهجيته في الحوار إلى فهمه لطبيعة المجتمع البريطاني الذين من عاداتهم بل من طبائعهم المرونة والبحث والاطلاع مع رحابة الصدور وحسن الأدب والاقتناع بالأدلة والحجج، وأكثر ما يقتنعون به الدليل المنطقي (1/ ص ط).
ان من أهم أسباب نجاح الحكيمي كانت قدرته على الحوار والإنتاج ، واعتماده على الحجة والمنطق العقلي وتعامله بروح الحب مع جميع من يلقاهم من المسلمين وغير المسلمين (3/ص 566 وكذا 7).
وفي منهجيته يعلمنا طبيعة الحوار البناء بين الأديان وليس الإنكار للآخر. فقد كان الحكيمي قارئاً جيداً لأنجيل متى ، ويوحنا ، إنجيل العهد القديم ، وإنجيل العهد الجديد ، أسفار التكوين "(1/ ص106/107)، وإنجيل لوقا، إنجيل برنابا، بل حافظاً لنصوصٍ منه يستدل بها في حواراته مع القساوسة ورجال الدين المسيحي. لقد كان مسيحياً أكثر من المسيح أو قسيساً أكثر من القساوسة .. لكنه عقليا لا نقلياً تحليلياً للنص المسيحي لا محلاً لها .
تم توجيه 45 سؤالاً أجاب عليها في جلسة واحدة ، وقام بدور الترجمة فيها نعمان عبده علي العبسي، بعد أن كان قد ألقى خطاباً دينياً إسلامياً مدعماً بالأدلة القرآنية، حسبما طلب منه من قبل الكنيسة، والذي أعد بالفعل وألقي من قبل نعمان العبسي نيابة عنه.
وتدل الأسئلة على وجود إعداد مسبق لها من قبل الكنيسة أو القساوسة والرهبان وذلك لما يستشف من عدم التكرار لها، أو الضعف في مضمونها . وثانياً لطريقة إدارة الحوار من قبل رئيسهم ومناداته لأسماء السائلين أولاً بأول وكاملاً (راجع 6). مما يؤكد ما نراه . وثالثا لم نتوصل إلي ما يدل على أن بعض الأسئلة لم يتم تدوينها أو تم حذفها حتى نقول أن الأسئلة التي تتسم بالضعف أو التكرار قد حذفت أو لم تكن لها أهمية. كما يجري عادة في كل المحاضرات أو الندوات العامة بل على العكس ذكر في صحيفة السلام العدد 15 أن جميع الأسئلة وردت كما هي .. دون أي تدخل.
ولذلك تأكيد على أنه حوار وليس سؤالاً وجواباً أو محاضرة ، سيما وأن لدقة الأسئلة معنى وهدفاً، المقصود بها إظهار عجز وضعف المتحاور ومن ثم دينه. وهذا ما يستشف من طبيعة الأسئلة التي وجهت إليه. وقد لخص الحكيمي الموضوعات الأساسية لحواره مع القساوسة والرهبان بالقول "اعتقاد المسلمين بالله وبمحمد وبالبعث بعد الموت .. وسؤالهم بصورة خاصة: عن ألوهية المسيح وتعدد الزوجات والطلاق والحجاب (1/ ص ي).
وهذا كله يؤكد شيئين الأول سعة اطلاعه وثانيا سعة أفقه في الحوار بمعنى محاورته من تراثهم وإيجاد أدلة وشواهد لتأييد وجهة نظره من معتقداتهم وبصورة هادئة تعتمد على النفس الدبلوماسي في طرح الرأي وقبول الرأي الآخر واحترامه عملاً بقول فولتير "قد اختلف معك في الرأي ولكني على استعداد للموت دفاعاً عن رأيك".
ويضيف (البعداني) حوار الحكيمي مع أتباع الديانات الأخرى بأنه كان"حواراً هادئاً بعيداً عن الجدل العقيم، وبعيداً عن الإساءة والتجريح والاتهام والتحدي، لقد كان حوار أصدقاء لا حوار أعداء، حوارا لداعية ومصلح يحمل روح المودة لمخالفيه ويريد لهم الخير والهداية.. ويهمه اقتناعهم بالحق قبل أن يهمه الانتصار عليهم. (3/ ص575).
في حواراته عمل على إزالة النظرة القاصرة والمشوهة قبل الإسلام بسبب أعمال بعض الجهلاء. مما أسهم في تقبل دعوته إلى الأوساط المسيحية. (3/ ص 567)
كما كان الحكيمي يهدف في حواراته إلى تحقيق مجموعة من الأهداف هي:
1- تصحيح مفاهيم العقيدة.
2- امتصاص المعتقدات المسيحية الخاطئة.
3- دحض الشبهات حول الإسلام.
4- إبراز الصورة الصحيحة للإسلام.
5- إبراز حضارة الإسلام والمسلمين.
6ـ كشف ممارسة العنف الصادر من الحضارة الغربية ضد الحضارة الإسلامية. وتصحيح مفاهيمها لدى المسيحيين. راجع أيضاً (3 /ص 569).
لقد كان الحكيمي جريئاً حين قرر أن يطرق أبواب الكنائس الأوروبية وحاور القسس في بريطانيا وفرنسا في مقر كنائسهم وفي مسجده بكاردف في حواره يوم 3 أغسطس 1949م، بكنيسة بناث وليز، والذي نشر بعد ذلك في الدورية الكنيسة, تعرض الحكيمي فيه لعدد من الموضوعات هي:
1- واحدية الدين.
2- عقيدة التثليث عند المسيحيين واعتقادهم بألوهية ونبوة عيسى عليه السلام.
3-مهبط الأنبياء في الشرق.
4-القرآن كلام الله أو كلام محمد؟ وكيف فهمه الرسول محمد وصلته بالكتب المقدسة الأخرى.
5-نبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
6-صحة الاعتقاد بالبعث والحساب والعقاب.
7-الإسلام دين حرب أم سلام وعلاقة ذلك بالحروب الصليبية.
8-الفائدة من الصلاة والصيام، وحكمها.
9-نظام القضاء في الإسلام.
10-الزواج عند المسلمين وتعدده ونظام الطلاق.
11-الأيام المقدسة لدى الأديان وحكمها.  (راجع أيضاً 9/ص 159).
ففي حوار له مع امرأة إنجليزية .. تقول في لحظات من الغضب على إسلام زوجها على يده ..
أنها لا تؤمن بالله إلا إذا رأت الله ، بطوله وعرضه .. فيقول لها .. وهل تحبين زوجك؟ فقالت نعم.
ــــ قال .. لا أصدق ..
ـــ ولماذا ؟
ـــ لا أصدقك إلا إذا رأيتُ كيف هذا الحب .. وكم يزن ؟ وما لونه ؟ وما طوله ؟ وما عرضه .
ـــ قالت الحب موجود لكن لا نستطيع أن نعرف كيفيته .
ـــ والله له المثل الأعلى .. نحن نؤمن به وهو أعلى من أن نحيط به علماً(3).
ومثل هذه الطريقة في الحوار إن لم تقنع الآخر بوجهة نظرك .. على الأقل توجد لديه الشك فيما يعتقد .. ومحاولة البحث في تساؤلاتك.



أسس ومنطلقات الحوار

إن الحكيمي كان له سبق متميز في الحوار بين الأديان والحضارات في أوروبا. (3/ ص572 ), و كان الحكيمي من كل لقاءاته وحواراته مع المسيحيين يهدف إلى توصيل قناعة أن الأديان تنطلق من مبدأ واحد، وهو واحدية الإله، والمعبود الذي هو "الله" وأن الاختلاف في هذا الجانب إنما يرجع إلى الإنسان نفسه وليس لغيره. وبذا فدعوته للحوار بين الأديان تهدف إلى التوصل إلى المفهوم السليم للدين الذي ينبغي أن يجمع الجميع عليه "الدين الواحد" وهو الدين الذي يدعو إليه جميع الأنبياء والرسل. و في كتابه "دين الله واحد" تعرض الحكيمي لثلاث قضايا تعامل معها "المسيحيون بنوع من اللغط وهي:
1-إلوهية المسيح.
2-نبوة يسوع، ونبوة محمد.
3-المرأة وتعدد الزوجات والطلاق.
يقوم حوار الأديان لدى الحكيمي على اتجاهين، يتمثل الأول بالدعوة إلى الإسلام .. وهنا تعتبر بداية تسجيل تحسب لصالحه وعملية مهمة في اختراق المجتمع المسيحي بسحب عدد منهم إلى الدين الإسلامي .. وهذا ما قام به في هجرته الأولى لبريطانيا الممتد ما بين 1936م و 1940م وفيها عمل على إدخال عدد لا بأس به من المسيحيين إلى الدين الإسلامي فأعلنوا إسلامهم على يديه وتعلموا الإسلام في مركزه الإسلامي وكان تأثيره على النساء كبيراً حيث أسلمت على يده الكثير من النساء الإنجليزيات اللواتي كن متزوجات من مهاجرين عرب، وأصبحن يحضرن لديه لتلقي الدروس والتعاليم الإسلامية ويتعلمن شؤون الإسلام . (راجع3/ ص656) أما الاتجاه الثاني فكان الحوار المباشر مع القساوسة والرهبان، اذ مثل هذا ولوجاً مباشراً مع رجال الدين . المسيحي .. وهنا أخذ طابع الحوار صفة أكبر عمقا وأهمية في التعامل المباشر مع الآخر .
وهنا نؤكد على أن الحكيمي اعتمد في حواره في الاتجاه الأول أيضا العمل على إيجاد وتحديد مكانة الجالية الإسلامية في بريطانيا من خلال إيجاد إطار تنظيمي ومرجعية للجالية تمثلت في إنشاء الجمعية الإسلامية العلوية، وبناء مسجد نور الإسلام، والمدرسة الإسلامية التابعة لها، وإصدار صحيفة السلام، وتعد هذه المؤسسات إطاراً مرجعياً لحواراته مع الكنيسة ، ومصدراً من مصادر نشر الإسلام في الوسط البريطاني والذي شجع على إسلام أكثر من 500 فرد في بريطانيا على يديه ، ويشير الفريد هاليداي إلى أن "تنظيم الشيخ الحكيمي للجالية اليمنية خارقاً . وذلك بسبب ما أظهره من دأب في تحمل أعباء الجالية ، فقد كان شخصاً يتمتع بطاقة وقدرة تنظيمية ملحوظة"(4)
كما يصفه الشيخ عثمان عبد الله الأزهري بأنه زعيم ديني واجتماعي ، وأن هذه الصفة هي التي كانت سبباً في قصده من قبل رجال الدين المسيحي في كاردف، بقصد المناقشات والتعرف عن الدين الإسلامي من قبلهم ((فبودلت الزيارات وعقدت المجالس للمناظرات والسؤل))، (1/ص31). كما يعد أول من قام بتجميع المسلمين في بريطانيا بتجمعات مدنية وإيجاد إطار للتآلف مع المجتمع المسيحي ورجال الدين المسيحي في بريطانيا آن ذاك (5/  ص 3).
وعمل الحكيمي كرجل دين على تجميع المسلمين في بريطانيا في إطارات مدنية وتجمعات عصرية حديثة فكان ذلك سبباً في تهافت رجال الدين المسيحي للتعرف عن الإسلام وقوله في المسيح والمسيحيين. إذ تقدم عدد من القساوسة والرهبان بأسئلة تهدف إلى كشف أعماق وجوهر الإسلام، تتمحور حول النقاط التالية:
1-المسيح وصفاته وخلقه (هل هو ابن الله، أم هو روح، وكذا البعث والعودة إلى الأرض.
2-أوجه التشابه بين الديانتين .
3-المسيح في القرآن .
4-جوهر الديانة الإسلامية ومعتقداتها حول (البعث، والحساب والعقاب ، والصيام ، والزهد، والزواج وأحكامه، ونسب الأنبياء، والمسجد ومكانته لدى المسلم، وكذا القضاء والقضاة في الدين الإسلامي، وعلاقة القرآن بالكتب السماوية الأخرى).
5-نظرة الإسلام للديانات الأخرى، لاسيما السابقة منها. ورأيه في الأنبياء السابقين على المسيح ونبوءاتهم وعددهم  والفرق بين الأنبياء والرسل، ومهبطهم  في الشرق، ففي رده عن الأسباب التي أوجدت الأنبياء من الشرق أشار إلى ما جاء في سفر التكوين الإصحاح التاسع "وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك، ساما، وحاما، ويافثا، فحام أبو كنعان، هؤلاء الثلاثة بنو نوح ومن هؤلاء تشعب كل الأرض .." (5/  ص 31).
6-القرآن وماهيته ... وهل هو كلام الله أم كلام محمد عليه الصلاة والسلام.
7- الخلافات الحربية بين المسلمين والمسيحيين (الحرب الصليبية).
لكن البعض من الأسئلة كان يقصد منها التعرف عن سعة الاطلاع والإدراك لديه مثل " عدد الكتب السماوية ، وعلى من نزلت، وكم يوجد منها الأن؟ وكذا السؤال عن ماذا ترون في عقول الغرب وما الفرق بينهم وبين رجال الشرق؟ ولماذا للمسلمين الجمعة واليهود السبت والمسيحيين الأحد؟.
وقد نشرت جميع الأسئلة في العدد 15، 16 من صحيفة السلام في 15مارس 1949م . كما نشرت بعد ذلك في كتاب الأسئلة والأجوبة بين المسيحية والإسلام.

**
كان هدف الحكيمي الأساسي دفع الشبهات عن الدين الإسلامي والتعريف به, فمثل له ذلك طريقاً للدخول في حوارات متعددة ومن زوايا مختلفة مع رجال الدين المسيحي وفي ذات الوقت حث أتباعه على إبراز القدوة الحسنة في سلوكهم وتعاملهم مع الوسط البيئي والاجتماعي المسيحي "بالحث على مكارم الأخلاق ، وجلائل الأعمال الصالحة والخلوص بالنية لله وصلاح الأعمال" (5/ ص4).
واستطاع أن يغير تلك المفاهيم حول الإسلام بتحاوراته تلك إذ يقول ... "لقد استطعت أن أفهم ما عندهم ويفهمون ما عندنا، وذلك ما جعلهم ينصفون ويعترفون بسمو الإسلام وقوة جاذبيته و روعته، ويقدرون لهذه الجالية الإسلامية قدرها (6/ ع 105).

المسيح بين النبوة والألوهية:
و يرى الحكيمي "أن العقل والمنطق لا يقران القول بتعدد الأديان إذ لو تعددت الأديان لتعددت الآلهة ويؤكد بأن ليس لأحد دين يخالف به دين الآخر ولو أن الله أعطى لكل نبي ديناً يخالف دين الآخر لكان بذلك قد فتح لهم باب الفتنة ورضي بالتنازع والتفرقة بين العباد وأنه لا سبيل إلا أن ينشب المعاصي للعباد إذا كان بارز الشقاق والنزاع ( راجع 1/  ص 9). إذ يقول في كلمته التي ألقاها أمام جمعية الرجال المسيحيين "إن الأديان مهما اختلفت في نظر المتدينين فإن "الدين عند الله واحد، والله وحده هو الذي يستحق عبادة الخلق دون غيره".
وهذا يؤكد على خط التوحيد الإلهي لديه وعدم وجود أكثر من دين لديه "إذا أنعم الناس ودققوا نظرتهم الفاحصة فإنهم لا يجدون ما يختلفون فيه أو عليه أبداً، وإذا رجع الناس إلى تعاليم الأنبياء الصحيحة ينظرون إلى ما فيها فإنهم لا يجدون في تعاليمهم أي اختلاف، وإنما تتمثل تعاليمهم ودعواتهم كلها في عقيدة واحدة، هي توحيد الله والإيمان به (6/ ع 16).
لقد أورد "الحكيمي" في كتابه دين الله واحد كل ما يشير إلى أن عيسى المسيح إنما هو نبي وليس إله, وليس أبن الله أيضاً كما يزعمون ، وأتت نصوص الإنجيل كاملة سيما إنجيل برنابا ويوحنا ومتى، الذي أورد منه جميع النصوص التي تدل على أن عيسى رسول وأنه بشر بمحمد من بعده رسولاً ونبياً. ما يعطينا دليلاً واضحاً على أن أسلوبه في الحوار لم يكن يعتمد على الاستدلال بما لديه من حجج وأدلة وبراهين، وإنما اعتمد على ما لدى الأخر من دلالات واضحة بينت له خطأ معتقده، دون المساس بمشاعره أو إظهاره بمظهر الجاهل وناقص الوعي .
**
لقد أجاد الحكيمي قراءته للأناجيل الأربعة المعترف بها من قبل الكنيسة واعتمد عليها في محاجة محاوريه من القساوسة والرهبان بالإسناد والدليل . بعيداً عن التحديات .. وباسلوب آخر تأدباً منه مقروناً بالرجاء، وطلب التفكير والنظر إلى القضية أو الموضوع بعقلانية ومنطقية مما جعل لحواره معنى حضارياًّ أكثر منه مقارعة الحجة بالحجة.
لم يكن الحكيمي رجل دين فقط بل كان في حواره مع رجال الدين المسيحي سياسيا ذا حنكة. ولم يكن محاوراً جاهلاً، ولا عالماً بالدين الإسلامي فقط، بل والمسيحي أيضاً.
فلم ترد عنه عبارات تجرح معتقداتهم وإيمانهم بالمسيح، أو عبارة تكفير قط في إجاباته على أسئلتهم المختلفة بل يشير في أكثر من موضع أن دين المسيح هو ديننا وديننا هو دين المسيح(5/ ص 16).
لقد اتبع الحكيمي منهج الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الدعوة وحمايتها والثورة على الباطل فيرى أن الداعية عليه الالتزام بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادل بالتي هي أحسن, ولا يكون فظاً غليظ القلب شأنه اللين والرفق وتحمل الأذى والصبر وإقامة الحجة الوسائل (7/ ص108) والترفع عن كراهية الأخر مهما اختلف معه في الدين.
يرى (الذيفاني) أن حواره مع الكنيسة قد أفشى السلام حيث كانت الجالية الإسلامية تتعرض للأذى والهجوم المادي والمعنوي من قبل أعداد من المغتصبين ، بقناعة مغلوطة عن حقيقة المسلمين، فعندما بينها .. وطرح عليهم الحجة تراجعوا وخف بعض الأذى ودفع جزءا منه (8/ ص 122).
ويرى (سلطان) أن الحكيمي حاور القساوسة في ظل ظروف صعبة ، ووعي ديني مشوه لديهم عن الإسلام ومبادئه. فالعداء الشديد للدين الإسلامي وانتشار مفاهيم خاطئة عنه تمس الإنسانية ، ووجود نظرة تعالٍ وانتشاء لدى القسس والرهبان ضد المسلمين سببه قوة الحضارة الغربية وضعف المسلمين باعتباره دليلاً على خطأ العقيدة الإسلامية وبلادة العقل لدى شعوب الشرق. (9 ص 127).
يحاول الحكيمي تثبيت معتقد المسيحيين بنبوة المسيح بقوله "أنتم تعتقدون أن المسيح إله وابن إله على اعتقاد البعض بالقول ....  والمسيح كما تعلمون بشرٌ والبشر لا يكون إلها مهما سما قدره وعلا شأنه" ثم يضيف : وقد عرفتم أنتم إن إلهكم هو المسيح والإله لا يكون رسولاً ، بل لا بد أن يرسل للناس رسولاً، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وعلى هذا فمن هو رسول إلهكم المسيح ، وما اسمه واسم الكتاب الذي جاء به من عند هذا الإله. (5/ ص 17).
ولكي يؤكد "الحكيمي" أن يسوع المسيح نبي وليس إلهاً كما يرون أورد عدة أمثلة  ونصوص ليس من القرآن فقط بل ومن الإنجيل ومن اتجاهات مختلفة فمن إنجيل متى يورد النصوص التالية: "طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون، " وفي تعليق الحكيمي على هذا بالقول لقد أثبت المسيح شهادته في تعاليمه لصانعي السلام أنهم أبناء الله وهذا ينافي قول من يقولون أن المسيح وحده ابن الله ومرادهم بذلك ألوهيته وإنما الناس كلهم أبناء الله أي عبيده وخلقه، وقد جاء ذكر الأبناء في العهد القديم وقبل وجود المسيح" (1/ ص 108). ومن الضروري أن ننظر إلى مثل هذه المعالجات من قبل الحكيمي لتحاوره مع الطرف الآخر في دحض فكرة، وطريقته المنهجية في إدارة الحوار الديني بعيداً عن التعصب أو التطرف أو التمسك بالموقف الأحادي .
وجاء في الإصحاح نفسه قوله (وحينما تصلون لا تكثروا الكلام باطلا كالأمم. فإنهم يظنون أنه بكثرة كلامهم يستجاب لهم، فلا تتشبهوا بهم لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه. ومن إنجيل يوحنا الإصحاح العشرون يورد .... قال المسيح لمريم (لا تسلميني لأني لم أصعد بعد إلى أبي ... ولكن اذهبي الى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم) (5/ ص6).
ومن إنجيل برنابا يورد النصوص التالية: "قال المسيح يا رب إني عالم أن الكتبة يبغضونني والكهنة مصممون على قتلي، وأنا عبدك لذلك أيها الرب الإله القدير الرحيم اسمع برحمة صلوات عبيدك وأنقذني من حبائلهم لأنك أنت خلاصي .. أنت تعلم يا رب أني أنا عبدك .. إياك أطلب يا رب وكلمتك حق وهي تدوم إلى الأبد. (1/ص 59). فالمسيح ابن الله ليس بالمعنى الأبوي لديه وإنما بالمعنى الروحي, والاصطفاء البشري من الله سبحانه وتعالى للبعض من بني البشر "كاصطفاء آدم بالخلق ، وعيسى ومحمد بالنبوة". (5/ ص 7 ), فالله روح، منح من صفاته البشر "الروح" ومنهم عيسى وأدم ... بل وجميع البشر.
ثم يشير في نص آخر ورد في سفر التكوين الإصحاح الخامس عشر "في ذلك اليوم قطع الرب مع إبراهيم ميثاقاً قائلاً لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى نهر الكبير نهر الفرات".
لقد اتبع "الحكيمي" المنهج العقلي المنطقي التحليلي الاستفهامي منطلقاً من مبدأ الشك "الديكارتي" إذ يقول في صلب المسيح كمبدأ استدلالي عن نبوة عيسى وليس ألوهيته : "إن والداً لا يدافع عن ولده فليس بوالد، وأن والداً يسمح بقتل ابنه لأجل خلاص أناس آخرين ليسوا أولاده ، لمن المحال أن يقبله العقل أو يسلم به المنطق ، وأن الإله الذي لا يعد على خلاص العالم وتكفير ذنوب الخلائق بقدرته وإرادته وعفوه، فليس هو إله وأنا أول الكافرين به. ثم كيف يكون للإله العزيز الكبير ولداً واحداً بينما لكل واحد منا ونحن على عجزنا وصغرنا وضعفنا ثلاثة وأربعة وخمسة وعشرة من البنين والبنات ؟؟ ألا نفكر في ذلك ونرجع إلى الرشد والصواب ؟ وإذا كان المسيح إلهاً أو ابن إله فإن الإله من صفاته الحياة، وهو حي لا يموت ، وكذلك الابن يكون مثل أبيه" (1/ ص60).
**
وفي حواراته كان لديه القدرة على الاستشفاف المستقبلي سيما في بعض من القضايا التي يختلط فيها الجانب السياسي بالديني .. ومنها قضية الحروب الصليبية وتأثيرها على الشرق الإسلامي. "الحروب الصليبية المصبوغة بصبغة العقيدة والدين المشبوه المشكوك فيه، حتى ولدت فيها حروب صليبية سياسية، هي أشد خطراً وأعظم بلاءً على سكان هذا العالم المضطرب، وأن حرب العقيدة كان أهون وأيسر ، أما الحروب السياسية فهي حروب مادة أطماع" (5/ ص 35).
وهنا يتأكد لنا أنه لم يكن رجل دين فحسب, بل رجل دين وسياسة فكلما تسنح الفرصة له في الحديث عن تلك الجوانب لا يغفلها، ففي حديثه عن الحرب الصليبية يسرد قضية الصراع الحربي بين كل من الشرق والغرب على مدى التاريخ الديني لهذه المجتمعات. إلا أنه يشدد في الحديث عن الاستعمار الحديث والحركات الاستعمارية المعاصرة وفي ذاك الوقت ينتقد تعامل المجتمعات الغربية مع الشرق في الوقت الذي يصفون أنفسهم بأنهم أصحاب نزعات تحررية وليبرالية وديمقراطية.. وفي هذه الحروب يرى الحكيمي أنها دينية من طرف واحد فقط ، أي أنها وجهت من الديانة المسيحية ضد الديانة الإسلامية كونها لا تؤمن بمحمد ولا بنبوءته أي نتاجاُ لموقفها الرافض من الدين الإسلامي, ونزعة تنطلق من الفكر المسبق بأن "محمداً كان رسول حرب لا سلام وما نشر دينه إلا بحد السيف" (5/ ص 37 ) إذ هي من طرف واحد كون المسلمين يؤمنون بالمسيح كمثل إيمانهم بمحمد، ويضيف "لأن ديننا يحتم علينا الإيمان بالأنبياء كلهم وتصديقهم واحترامهم. (5/ ص37).
وفي ذات الوقت يورد نصاً من الإصحاح العاشر من إنجيل "متى" النص 34/35/36 يدحض فيها الشبهات عن صفة انتشاره بحد السيف كما يزعمون ... لا تظنوا إني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً ، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكن ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيئته". ويؤكد الحكيمي أن المسيح كان رسولاً يعمل ما يأمره به رب العالمين, وكذا محمد كان يعمل ما يأمره الله به. بل على العكس من ذلك قال تعالى ((ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)). صدق الله العظيم, ثم يورد بإسهاب صفات ومحاسن الرسول عليه الصلاة والسلام وحواراته مع الغير، وكذا مراسلاته للملوك والحكام ودعوته لهم بالدخول إلى الإسلام، كتأكيد على أن محمداً عليه الصلاة والسلام, صاحب دعوة ورسالة يدعو إليها بالموعظة الحسنة .. وليس بالسيف والعنف كما يدعون. و يلاحظ من كتابات الحكيمي أنه كان مدافعاً عنيداً عن الإسلام ورسوله لكن ليس من المسيحية بل من أصحاب الفهم المغلوط والقاصر ممن ينتمون إلى المسيحية.
**
لقد كانت أغلب الاستفسارات معرفية أو رغبة في المزيد من التعرف على جوهر الدين الإسلامي، ولكن في القضايا الاجتماعية وليس التعبدية. وبالعودة إلى العدد 15 من صحيفة السلام للتعرف على طبيعة الحوار في عشية الخميس 3/جمادى الأولى/1367هـ الموافق 3 مارس 1949م، نجد أن الدعوة وجهت إلى الشيخ عبد الله علي الحكيمي رئيس الطائفة العلوية الصوفية ببريطانيا وصاحب جريدة "السلام". من قبل أعضاء "جمعية الرجال المسيحيين" التابعة للبروتستانت لحضور في الاجتماع المنعقد في "كنيسة بناث ويلز الجنوبية" والذي كان اجتماعا دينياً بحتاً وقد طلبوا منه الحضور وإلقاء خطبة دينية إسلامية ممزوجة بالأدلة القرآنية . ورافقه في هذا الحوار بعض أعضاء الجالية الإسلامية بكاردف، "نعمان محمد البعداني ، وعبد الستار نصر الشميري وحسن شير الصومالي ، وعلي سالم علي عبده ومحمد سالم علي عبده ، ونعمان عبده علي العبسي الذي تولى عملية الترجمة لتمكنه من اللغة الإنجليزية والعربية كونه من أم انجليزية وضمن الطلاب الذين أرسلهم للدراسة في الأزهر. ثم جمعت هذه الأسئلة ونشرت بعد ذلك في العدد "15" من صحيفة السلام ، والذي بلغ عددها "45" سؤالاً .. تضمنت مختلف المجالات .. وفي العدد 16 من السلام الموافق 24 مارس 1949م نشر نص الخطاب الذي ألقاه "الحكيمي" أمام القساوسة والرهبان في ذلك اليوم. وقال فيه "لقد تشرفت بدعوة الرئيس المحترم الذي دعاني بها لحضور هذا الاجتماع المبارك ، وإنني وزملائي الذين حضروا معي لمتشرفون جداً بحضورنا في هذا الاجتماع الديني الذي يضم أنبل الشخصيات من السيدات والسادة التابعين للكنيسة البروتستانت الكبرى في بريطانيا، ثم يضيف : "إن اجتماعاً دينياً كهذا لجدير بالاحترام والتقدير، وإن الدين محترم ومقدس مهما اختلفت طرقه وأسبابه، ومهما تقادمت أزمانه واختلفت نزعات الناس فيه"، وأضاف : ولن أتعرض إلى ذكر أي طائفة أو مذهب أو مشرب من المشارب، فإن ذلك مما لا أعنيه سيما وأنا أعرف أن الأديان مهما اختلفت في نظر المتدينين فا لدين عند الله واحد، والله وحده هو الذي يستحق عبادة الخلق دون غيره "وفي خطابه يضيف أيضاً: "إن الخلق جميعاً من الملائكة والبشر أنبياء وغير أنبياء عبيدا لله لا يشاركونه في ألوهيته وربوبيته وتوحيد عبادته" (6/ ع 16، في 24 /3/1949م).
إن تعامل الحكيمي في نقده للآخر ينطلق من ذات ومنهجية الآخر وليس من ذات منهجيته مما يعطينا مؤشراً على منهجية أكثر تطوراً ومرحلة فكرية سباقة في وضع تصور أكثر لبرالية من عصر الحوار وزمنه . غير أنه أورد نصاً آخر يستدل فيه على عدم ألوهية عيسى المسيح من الإصحاح السابع والعشرين من أنجيل متى على لسان المسيح يقول فيه: إيلي .. إيلي لما شبقتني أي إلهي ... إلهي لماذا تركتني", يقول "الحكيمي" إن هذا القول ، وهذا النداء الذي دعا به المسيح ربه قائلاً لما تركتني لأعظم حجر تلقم أفواه القائلين بأنه ابن الله وتجعلهم في حيرة لا يدرون ماذا يكون الجواب؟ ويضيف : "إن عيسى كما قالوا وأثبتوا في أنجليهم الذي يدينون به أنه قد قال فيه أن ربه قد تركه. نقول لهم: لو كان عيسى إلهاً لما قال ذلك ولو كان ابن الله لما تفوه بكلمة ولا نبس ببنت شفه ولا أظهر خوفه وفزعه ولا تذمره وألمه. إن الإله لا يتألم ولا يحس بألم لأنه ليس ببشر، وهم يقولون كذلك إن المسيح إله وليس ببشر، وإنما تجسم صورة إنسان، وليس هو إنسان … فلماذا يقول إيلي .. لما شبقتني  والإله لا يتأمل وإن تجسم بجسم إنسان "كما يقولون"(1/ ص110).
لم يكن حواره مع الكنيسة البروتستانتية في انجلترا بل كان أيضاً مع الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية ... "لقد اجتمعت براهب فرنسي الأب جورجيس كاميوت كاثوليك وتباحثنا معاً في مسائل الدين وكان معنا لفيف من الإخوان الحاضرين المستمعين فدام بحثنا ونقاشنا أكثر من ثلاث ساعات، ويورد النص كاملا للحوار في كتابه دين الله واحد. ومما سئل فيه الحكيمي .
ــــ أليس عيسى نبيا؟ فأجاب القس نعم .
ـــ قلت : له كان يصلي ويصوم يأكل ويشرب وينام؟
ـــ قال: نعم
ــــ فقلت ماذا؟ كان يقول لأتباعه في تعاليمه ... قال لي الملاك أم قال لي أبي.
ـــ فقال: قال لي الملاك، فقلت له وهذا مكتوب في إنجيلكم؟. وكنت قد أحظرت الإنجيل بيدي.
 ـــ فقال: كل ما قلته مكتوب.
ـــ قلت إن اعترافك هذا يدل على أنكم لا تعتقدون بأن المسيح إله: فقال: نعم إنه إله ابن الله.
ــــ فيرد عليه الحكيمي .... أنت تعترف أنه نبي وأنه يخبر أتباعه بما أخبره الملاك الذي هو الواسطة، ولو كان ابن الله لما احتاج الى واسطة بل لتكلم مع حضرة والده شفاها لأنهما ابن وأبوه. لكن رد القسيس كان .. إن عيسى في مرتبته فوق مرتبة النبي.
فما كان من الحكيمي  إلا أن تساءل .... أليس هو بشرا مخلوقا من أم اسمها مريم ؟ قال: نعم.
ـــ يرد وهل الملائكة مخلوقون من أباء وأمهات ويأكلون ويشربون وينامون؟ فقال: لا.
لكنه يوضح للقس بالقول إن لهم أجساماً نورانية. فقال نعم.
ـــ يرد عليه الحكيمي إذا عيسى كان له جسم كثيف كأجسام البشر. ولو قلنا أنه من الملائكة فان صفات الملائكة مخالفة لصفات البشر. ولكن لنقل على ما تعتقد أنت  لا ما اعتقد أنا : إن المسيح كان أحد الملائكة وليس هو الله! ..... فسكت.(راجع1/ص111).
          ويستمر الحوار بينهما في مسألة التثليث لدى المسيحيين والذي رأى فيه القس أن الله واحد لكنه ثلاثة، الأب والابن والروح القدس،  وفي ذات الوقت يرفع أذان العصر في مسجد نور الإسلام ليجدها فرصة للسؤال لمن يصلي من هؤلاء الثلاثة طالبا من القس أن يرشده. ليأتيه الرد
ــــ صل للأب الأكبر ـــ الله ـــ .... ويسأل مرة ثانية.
ــــ ألا تحدث فتنة بينه وبين أولاده وتكون أنت السبب؟.
          وبذا ينتهي اللقاء بينهما بالمصافحة بعد الابتسامة التي تدل على سريان عملية التشكيك لديه ... سيما وأنها كانت أول يوم في "حياتي أجتمع فيه بشخصية إسلامية تباحثت معها مباحثه لم تكن تخطر على بال، ولم أسمعها قط" كما قال (انظر 1/ص112).
وفي هذا الحوار نجد منهجية جديدة أو مختلفة يمكن أن نستدل بها في حواراتنا الدينية مع الآخر بعيداً عن التقليل من معتقدات الأخر ولكن إبراز حالة التناقض لديه من خلال الاعتماد على معتقداته في الاستدلال والبرهان. في وقت لم يكن فيه حال الجالية الإسلامية بأفضل مما هو مأخوذ عنها من معرفة مشوهة ، فعدم التنظيم لهذه الجالية وعدم وجود رابط مؤسسي يجمعها أو معرفة كاملة بالدين الإسلامي لديها ، وحالة الضعف التي تعانيه من العوامل المشجعة لأخذ صور مغلوطة عن الإسلام والمسلمين، إلى أن جاء الحكيمي بقدرته التنظيمية.
**
جاء في تفسيره لرسوخ معتقد أن المسيح إله أو ابن إله إلى أن "جميع المحيطين بالمسيح والمتصلين به كانوا يقولون فيه أنه إنسان نبي، وأما تسميته بتسمية الإله وابن الإله ، فإنما هي خديعة من أعداء المسيح ومكيدة دسوها عليه لإغراء ضعفاء العقول من أتباعه. وقد روج أعداؤه هذه الدعاية وأشاعوها في المجتمعات فكذبها العقلاء، والعقلاء قليلون في كل جيل وعصر وزمان، والجهال السذج هم السواد الأعظم في جميع الأمم ، ولما كان الجمهور الأقوى هم عشاق الخرافات وعباد الأهواء فقد تخلد تأليه المسيح في قلوبهم وأذهانهم إلى أن حولوا وبدلوا في كتبهم " (1/ ص 117)  وهذا الاستنتاج الذي جاء في نهاية مناقشة "الحكيمي" لألوهية المسيح استنتاج لا يخلو مطلقاً من النظرة الانثروبولوجية للانتشار الثقافي. بفعل هجرة السمات والعناصر الثقافية والأنماط التي تنتقل من فرد أو جماعة أو مجتمع إلى فرد أو جماعة عن طريق مجموعة متعددة من العوامل ـــ التجارة، أو الحروب، أو الغزو الاستعماري، أو الاتصال والتواصل.
          وتتعدد وتتنوع بحسب قدرتها على الانتشار ومدى انسجامها مع ثقافة الأفراد والمجتمع المنتقلة إليه الثقافة عن طريق الاحتكاك الثقافي باستعارتها من مجتمعات آخري (10/ص 30) شريطة التوافق والتوائم والانسجام بين مختلف العناصر الثقافية، أو التصادم البناء.
وثانياً: إن المجتمعات دوماً تعاني من ندرة من يمتلك الحكمة "العقلاء" كما سماهم الحكيمي" وسداد الرأي وصوابه سيما عند تكون الفكرة لمشروع ثقافي أو حضاري طويل الأجل لا يلتقطها إلا القليل القليل من الأفراد، وهذا استنتاج صائب من قبله .
 وثالثاً.. يرجع إلى إن العقل البشري دوماً بما وهب من قدرات يميل إلى التحليق الخيالي والخروج عن دائرة الواقع الذهني والمعرفي لقدراته المحدودة إلى الخيال والاستنباطات المعرفية لكل ما لم يستطع الذهن إدراكه وفهمه والتعامل معه .
فالله كمجسد غير مادي لكنه روحي غير قادرين كبشر للتعامل معه مباشرة, وهذا العجز أو عدم القدرة من التعامل المباشر مع الله من قبل الإنسان ــ في تلك الفترة ــ يعود إلى ما يعانيه البشر من نقص معرفي وذهني أوجد في أذهانهم فرصة للتعامل مع المسيح على أنه إله، ومما عزز ذلك لديهم ما يتمتع به المسيح أيضاً من قدرات ربانية وكرامات منحها الله له كنبي لم توهب لقبله أو لغيره من البشر كانت تفوق قدراتهم الاستدلالية والمعرفية، للتفريق ما بين كونه نبيا وليس إلهاً. وهو استدلال صائب أيضاً من قبل الحكيمي، في تفسير النظر إلى المسيح على أنه إله أو ابن إله. فالعقل البشري عندما يعجز عن فهم الظاهرة فهماً واقعياً ومنطقياً يميل إلى ردها إلى عالم الغيب أو بعيداً عن الواقع الحقيقي لها وربطها بما وراء الواقع أو دمجها مع الواقع الميتافيزيقي بكل معطياته كجزء من الإشباع المعرفي لسد جوانب العجز والفراغ لديه ومن ثم تصور على أنها مجسدات واقعية وحقيقية يتعامل معها وفق معايير حقيقية ، وهم من وصفهم "الحكيمي" بالجهالة السذج .. وعشاق الخرافات وعباد الأهواء". وهي سمة معرفية لهذا النوع من الأفراد لا تزال تنتج معرفة من هذا النوع حتى وقتنا الحاضر.
وإذ كانت الخرافة نوعا من المعرفة في نظر الحكيمي فهي فعلا كذلك فإنها أيضا وسيلة من وسائل إنتاج المعرفة أيضا ولا تزال، كما أنها وسيلة فعالة للحفاظ عليها وتتمتع بالقوة والنفوذ داخل المجتمعات بل وتتفوق في بعض مخرجاتها على الدين ذاته، وما بعض من شواهدنا الحالية إلا جزءا من المكانة التي تتمتع بها الأسطورة والخرافة في مركبات الوعي الجماعي والفردي داخل مجتمعاتنا المعاصرة لاسيما تلك المعارف التي تتصادم مع الدين أحيانا (ظاهرة الثأر) على سبيل المثال.
**
وكما عرض في مناقشته نبوة المسيح وعدم ألوهيتة بالعرض والتحليل من خلال الكتاب المقدس أو الأناجيل برواياته المختلفة فإنه عرض أيضاً لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام من خلال ما جاء في الكتاب المقدس والاستدلالات المختلفة لنصوصه. كلها تشير إلى وجود نبي قادم تدل جميع الصفات والمؤشرات على أنه "محمد عليه والصلاة والسلام".
          ففي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يشير إلى أن عيسى أخبر تلاميذه بأنه سيأتي بعده بهاء كل الأنبياء والأطهار، فيشرق نورا على ظلمات سائر ما قال الأنبياء، وقد ذكر في عدة مواضيع أثبتها التلاميذ في الإنجيل ... برنابا ويوحنا وغيرهم .... إذ قال المسيح في الرسول عليه الصلاة والسلام.. الذي سيأتي من بعده، أنه ـ أي المسيح ـ ليس أهلا لأن يحمل حذاءه (راجع 1/ص 63-64).
          كما يشير إلى ما جاء في الفصل الثاني والأربعين من أنجيل برنابا التلميذ قال: الحق أقول لكم أن كل نبي متى جاء فإنه إنما يحمل لأمة واحدة فقط علامة "رحمة الله ولذلك لم يتجاوز كلامهم الشعب الذي أرسلوا إليه" لكن رسول الله متى جاء يعطيه الله ما هو بمثابة خاتم يده فيحمل خلاصا ورحمة لأمم الأرض الذين يقبلون تعليله، وسيأتي بقوة على الظالمين، سيبيد الأصنام وعبده الأصنام، بحيث يخزي الشيطان، لأنه هكذا وعد الله إبراهيم قائلا: انظر فاني بنسلك أبارك كل قبائل الأرض، وكما حطمت يا إبراهيم الأصنام تحطيما سيفعل نسلك".
          كما أورد ما قال أليسوع في الفصل الرابع والأربعين... "لذلك أقول لكم أن رسول الله بها يسر كل ما صنع الله تقريبا، لأنه مزدان بروح الفهم والمشورة، روح المحبة والرحمة، روح العدل والتقوى، روح اللطف والصبر التي أخذ منها من الله ثلاثة أضعاف ما أعطى لسائر خلقه، ما أسعد الزمن الذي سيأتي فيه الى العالم، صدقوني أني رأيته وقدمت له الاحترام كما رآه كل نبي، لأن الله يعطيهم روحه نبوة، ولما رأيته امتلأت عزاء قائلا "يا محمد ليكن الله معك وليجعلني أهلا أن أحل سير حذائك لأني إذا نلت هذا صرت نبيا عظيماً وقدس الله" (انظر1/ص 73-74).
          وهذه الإشارات وغيرها أوردها الحكيمي للتدليل على تبشير عيسى عليه السلام ، برسول الله عليه الصلاة والسلام، من بعده دليلا واضحاً على وجوب تصديق المسيحيين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

قضية المرأة:
أما القضية الجوهرية الثالثة فكانت قضية المرأة وذلك لما للعرب من نظرة خلافية فيها مع الشرق ومن ذلك في اعتقادنا ــ القصور المعرفي لديهم بكل المعطيات المعرفية والأخلاقية لما أنتجته المجتمعات الشرقية في هذا الجانب.
ويعتبر الحكيمي من دعاة تحرير المرأة في اليمن ومن المشجعين لها في الوثب نحو المستقبل إذ عمل على إنشاء مدرسة لتعليم البنات تابعة للجمعية الإسلامية العلوية بجوار مدرسة البنين ، وكان مشجعاً لتعليها.
لذلك قوبل موقفه باعتراض من قبل بعض أعضاء الجالية والذين "لم يقبلوا بأن يكون للنساء حجرة في الزاوية لاجتماعاتهن الدينية، وفي هذا تسجيل واضح لمواقفه المتحررة وفكره المتقدم الذي يعد سابقاً لعصره.
ويصف هاليداي موقف "الحكيمي" من المرأة في تلك الفترة بأنه موقف متقدم بل "يعد بالنسبة للدين الإسلامي انحرافاً عن النموذج المتبع الذي اعتاد عليه المهاجرون. ( 11/ ص335)
وقد حاول الحكيمي التصدي لإهمال المرأة في التعليم الإسلامي التقليدي، وبذل جهداً خاصاً في تدريس الإسلام للنساء البريطانيات المتزوجات من البحارة اليمنيين والصوماليين في ساوث شيلدز. (11/ ص334 ), واللائي استجبن لقيادة الشيخ، وانتظمت فصول التعليم الديني الأسبوعي في الزاوية بمساعدة اثنتين من البريطانيات كانتا قد اعتنقتا الإسلام دربهما لهذا الغرض. (11/ ص334)
والحكيمي كرجل دين ينطلق من النظر إلى علاقة الرجل بالمرأة من الأسس الدينية الأولى لتلك العلاقة التي بدت أولاً مع "آدم وحواء"، والتي تلخص مجمل أفكاره الأساسية بل ونظرته إلى المرأة بصورة عامة. إذ يشير إلى أن الإمعان بالنظر في تلك العلاقة نجدها "تعود لصالح المرآة أكثر منه لصالح الرجل، وقد جعل الله الزواج ضامناً وكافلاً لسعادة المرأة التي ربطها برجل يقوم بها وعليها وأداها إلى ركن شديد هو الزوج، فجمع لها بين عاطفة الأبوة والأخوة والزواج وهذا عظيم لمن عرفه وفهمه. فهو من أنه أصل وهي فرع له لكونها منفصلة منه، يعد بمثابة الأب لها، ومن حيث النوع الإنساني والطينة الواحدة طينة آدم التي خمرها الله بيده، أختاً له، وأخيراً هي زوجه وهو زوجها من حيث خلق المودة والرأفة الزوجية وهو زوجها من حيث خلق المودة والرأفة الزوجية والرحمة الباعثة على نمو الرأفة والمودة المبنية بينهما الكائنة بطبيعتها، الموجودة قبل وجود شهوة المتعة، والدليل على ذلك أن آدم استيقظ من نومه وراء فصيلته حواء بجانبه أحبها لأول مرة وأنس بها قبل أن يراها أو يعلم بها أو يتصور أن هذه الشريكة له ستوجد منه أو من أي جهة أخرى، ولأول وهلة أعجبته وأحبها وأنس بها وأنست به، وقد كان هذا الحب والأنس والإعجاب موجود من أول مرة وباعثه النفسي يرجع للنفس الواحدة. (1/ ص 160) في الخلق لكليهما, ونظرة "الحكيمي" للمرأة صحيح أنها تنطلق من رؤية الفكرية التي تنبثق من تفكيره الديني، ولكن بتوجه منهجي خاص ينطلق منه، فالمرأة لديه التابع للرجل وهي مسألة منطقية لرجل دين "كالحكيمي" بنيت آراؤه على الأسس الدينية .. ومع ذلك لم ينظر إليها على أنها كيان جسدي للمتعة والاستمتاع، وإنما كيان جسدي وشريك أساسي في الحياة، كون الرابطة الجسدية بينهما أصلاً موجودة في طبيعة الخلق "فالرابطة بين الرجل والمرأة رابطة أصلية بدنيه وروحية معاً، وليست عادية, ولا هي كما قيل شهوة نفسية لأجل المتعة فقط (1/ ص 159).
وهنا تأكيد على أن المرأة لديه ليست جنساً، أو علاقة جنسية قائمة على المتعة فقط، وإنما قائمة على الألفة المسبقة في الخلق على اللذة والمتعة اللاحقة في الخلق، والتي يقوم دورها على تقوية الألفة والرباطة بين كل من الرجل والمرأة فقط "ولو لم يخلق الله فيها شهوة المتعة لما نقص شيء من تلك الرابطة بينهما، رابطة الحب، ورابطة العاطفة الذاتية" (1/ ص 159) وفي هذا استبعاد واضح من قبله لفكرة الجسد الأنثوي والجسد الذكوري أو لفكرة تبادل المصالح بينهما في العملية الجنسية أو استمتاع الرجل بالمرأة، وإنما العلاقة على أساس وجود رابطة مسبقة تقوم على وجود ألفة روحية مسبقة بينهما تنطلق من أصل الخلق لكل من الذكر والأنثى. وهنا إشارة الى ان الذات الفردية للجنس البشري ـ رجل وامرأة ـ تعد لديه ذاتا واحدة، أو اشتراك انفصالي، فالأصل في الخلق الذكر ومنه أيضا الأصل الأنثوي المنفصل عن الأصل الذكوري، والكل بينهما رابطة أصلية بدنية ذاتية وروحية معا، وليس عادية أو متعة جنسية وإشباع نفسي، "فالرابطة بين الرجل والمرأة يرى فيها الرجل صلته الأصلية النفسية ـ ذاته ـ بالمرأة قبل أن يراها موصلة به بالطريقة الحسية الزوجية، وأن الزواج الرابط بينهما ربطا حسيا يتقدمه الرابط النفسي الأصلي والمعنوي" (1/ص167).
**
وفي قضية المرأة تعرض أيضا لــ "تعدد الزوجات، والطلاق، والمهر والميراث" وكلها قضايا تنم عن عدم دراية وفهم مغلوط لدى الآخر عن منبعها الديني والاجتماعي ولا يزال التعامل معها بهذه الصورة إلى اليوم. لقد ناقش قضية تعدد الزوجات نقاشاً سوسيولوجياً بكل أبعاده الاجتماعية والاقتصادية وبطريقة علمية.       
وفي رأيه عن تعدد الزواج يرى فيه أن عاطفة الحب بين الرجل والمرأة أصلية وذات قدم، وإنها مزيجة بالنفس الواحدة، فان المسألة تعود إلى سنن الطبيعة أن يحدب الرجل على المرأة، وأن يعتني بشأنها، وأن يكون قواما عليها، ينظر لمصالحها المرتبطة بنفسه ـ ذاته ـ أكثر مما ينظر لمصالح نفسه الفردية، ولهذا السر الذي أودع فيه اقتضت الحكمة أن يتزوج بأكثر من واحدة إذا كان قادرا على ذلك" (1/ص168).
          فالأمر في التعدد أرجعه إلى الواجب الروحي والجسدي المرتبط بالخلق أو لأصل الخلق والوجود لكل من الذكر والأنثى فمن واجب الأصل ألا يتخلى عن ذاته، وعن أصله الثاني حتى وإن كان في ذلك عبئ عليه. "على أن تكاثر الزوجات يزيد في تكاليف الرجل ومضاعفة همومه، وليس أحد يرضى لنفسه الأضرار وتحمل مالا يطاق، لكن في مثل هذا الأمر يعد على الرجل أقل ما يجب أداؤه في سبيل المرأة التي هي جزءا منه لا يتجزأ، والمرأة نصف الرجل ولا يكتمل الجسم الواحد إلا باجتماع نصفه الثاني إليه... ويرى نفسه مع ارتباط المرأة به، أنه جسم كامل وبغيرها لا يعد كاملا وإن كمل حسيا لا يكمل حقيقة ومعنى. ثم انه يعترف للمرأة بحقها اعترافا لا من قبل العدالة الإنسانية فحسب، ولكن بطريق العدالة الإلهية ـ اعترافا مرتبطا بعقيدته ارتباطا صحيحا .. ويضيف متسائلا ... كيف لا.. وهو يرى أن الله يخاطبه والمرأة خطابا مشتركا .. ويصفهما وصفا مشتركا ويكافئهما مكافأة مشتركة" (راجع1/ص168ـــ 169).
          والتعدد لديه صفة روحية، وتواصل للذكر مع أصله، وواجبا نحوه في تحمل أتعابها، وليست مجرد متعة جسدية أو إذلال للطرف الأنثوي من الذكر ... وإنما توافق رباني لاكتمال الخلق الجسدي الذي لا يكتمل إلا به.
          إن تحليلات الحكيمي لا تخلو من عمق الرؤية الإنسانية والعاطفية الممزوجة بالبعد الذاتي لإنسانية الإنسان في النظر بعيدا عن النظرة الجنسية أو أنثوية الجسد الجنسي للعديد من رجال الدين الإسلامي، ففي تحليلاته قد يكون  سباقا في طرح الرؤية التنويرية في تحديد العلاقة بين كل من الرجل والمرأة بعيدا عن الجسد الجنسي، ويمكن لهذه الفكرة تحديدا أن تكون أكثر وضوحا في نظرته لقضية زواج المرأة باعتبارها عملية ربط برجل يقوم بها وعليها.. مجمعا لها بين عاطفة الأبوة والأخوة والزواج... فمن حيث أنه أصل وهي فرع له لكونها منفصلة منه، يعد بمثابة الأب لها، ومن حيث النوع الإنساني والطينة الواحدة، التي خمرها ادم بيده ، تعد أختا له ، وهي زوجة من حيث خلق المودة والرأفة الزوجية والرحمة الباعثة على نمو الرأفة والمودة الجنسية بينهما الكائنة بطبيعتها، والموجودة أصلا قبل وجود شهوة المتعة، ويستدل على هذا .. "أن أدم لما أستيقظ من نومه وراء فصيلته حواء أحبها لأول مرة وأنس بها قبل أن يراها أو يعلم بها" (1/ص160).
          وفي المسيحية تشير نصوص الإنجيل إلى أن الأصل في التعدد ... ويستدل الحكيمي على ذلك بما ورد في الإصحاح الرابع ما نصه " واتخذ لا مك لنفسه امرأتين. اسم الواحدة عادة واسم الأخرى صلة"، وكذا في الإصحاح السادس ورد أيضا .. " وجدت لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات، أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا" (1/ص248).
          من هذا يرى الحكيمي أن تعدد الزوجات لم يكن ممنوعا في المجتمعات المسيحية، بل كان شائعا في أيام الدولة الرومانية، وأن الملك فالنيتان الثاني أصدر أمرا ملكيا، أباح فيه لجميع رعايا الدولة التزوج بأكثر من واحدة إذا رغبوا في ذلك، و يشير إلى أن التاريخ لم يروِ قط أن الأساقفة اعترضوا على ذلك. بل حذا كل من جاء بعده من الملوك حذوه، ... إلى أن جاء الملك جوستنيان وضع قوانين تحظر تعدد الزوجات فلم تمنع الناس من الاستمرار على هذه العادة, وكل ما دلت عليه قوانينه أنها كانت مظهر من مظاهر التحول الفكري لطائفة قليلة من المتعلمين, أما السواد الأعظم فلم يحفل بها, ولم يجد فيها ما يحول بينه وبين عادته تلك (راجع 1/ص 193-194).
          وضمن هذا السياق يورد الشيخ الحكيمي قضية إبراهيم الخليل عليه السلام في زواجه من هاجر في ظل وجود سارة، ويستدل بما جاء في السفر السادس عشر من سفر التكوين: "وأما ساراى امراءة ابرام فلم تلد له وكان لها جارية مصرية اسمها هاجر فقالت ساراى لأبرام هو ذا قد اسكن عن الولادة أدخل على جاريتي لعلي أرزق منها بنين فسمع ابرام لقول ساراى فأخذت ساراى امرأة ابرام هاجر المصرية جاريتها من بعد عشر سنين لإقامة ابرام في أرض كنعان وأعطتها لأبرام رجلها زوجة له, فدخل على هاجر فحبلت" (1/ص221).
          ولمزيد من دعم أصل التعدد وليس في أحادية الزواج, وعلى أنه سنة في الاؤلين, أشار إلى ما ذهب إليه كل من يعقوب وجدعون وسليمان, وغيرهم من أنبياء الله وأقواهم, الحادي والعشرون من سفر التثنية أن يتزوج المحارب "بمن أحب من السبي, ولم يستثني من ذلك المتزوج بقوله إذا خرجت لمحاربة أعدائك .... فتكون ذلك زوجة" (1 /ص222).
          ويذكر أن العديد من الملوك ممن كانوا مسيحيين ملتزمين بالنصرانية كانت له أكثر من زوجة مثل ملك فرنسا دانيال, وغيره.
          ويختم أدلته على وجود التعدد في المسيحية بالإشارة لما ورد على لسان البابا غراغور الثالث في إجابته على الواعظ يدسفاس عام 726م، عند سؤله عن جواز التزاوج بامرأة ثانية فأجابه بالقول: إذا أصيبت المرأة بداء يمنعها عن القيام بحقوق الزواج. جاز له أن يتزوج بامرأة أخرى, وعليه للمصابة مؤنتها الضرورية ( 1/ص224).

**
فالزيادة السكانية في عدد النساء جراء الحروب والمخاطر الاجتماعية التي تؤدي إلى التقليل من عدد الرجال .. مقابل الزيادة في عدد النساء "إن ارتفاع عدد النساء وانخفاض عدد الرجال فكيف يكون حال هذا العدد المرتفع من النساء وإلى أين يذهبن (1/ص170). فأمام حاجة المرأة إلى الإشباع الجنسي والعاطفي تكون الطريق أمامها مختلفة إذا لم يتم الزواج. "فالمرأة ترى بعض النساء يأوين إلى بيوت تقيهن الحر والبرد، وعلى الفراش الوثير إلى جانب أزواج يقومون بمصالحهن ويعالجون أمراضهن الخاصة والعامة .. وأصبحت المرأة الوحيدة والفقيرة أمام الأمر الواقع, فلا ريب أنها تنادي بتعدد الزوجات وترتضى كل واحدة منهن أن تعيش مع زوج ولو على أكثر من أربع زوجات" (1/ ص170)، أمام الضرورات الخاصة، وفي هذا معالجة واضحة من قبله من الناحية الاجتماعية والنفسية للمرأة.
أو على حد تعبير فارس السقاف "إن الإسلام قد اعتنى بمصالح المرأة وكفلها من جميع الوجوه وقدرها تقديراً كبيراً فربط أربعاً منهن برجل واحد إذا ما دعت الضرورة واقتضت المصلحة حتى لا تتدهور حياة المرأة إذا ما قل عدد الرجال وكثر عدد النساء (12/ ص 67).
أما في إسناد الإسلام حق القوامة والإنفاق وكفالة المرأة من الرجل أو يجعلها بحاجة إلى من يتحمل هذه المسئولية، فالزواج الثاني لها يعد من مهام إسناد مسئوليتها للزوج. وبذا تجنب المرأة من تحمل مسئوليات اجتماعية قد تثقل كاهلها وتسبب لها العديد من المتاعب. فهو إلقاء بالمسئوليات على الغير من الذي يكفل حياة هذا الجنس، الجنس اللطيف الذي لا يقوى قوة الرجل على الأسفار والاغتراب في طلب الرزق ومزاولة الأعمال الشاقة التي لا تطيقها المرأة غالباً(1/ ص170).
وكأن آراء الحكيمي تقرأ مستقبل التسعينات التي بدأت معه تنشأ جمعيات ومنظمات من المجتمع المدني من قبل النساء تطالب الرجل بالزواج من أكثر من امرأة، في العديد من المجتمعات التي تعاني من فائض نسائي كمصر ودول الخليج العربي كحل لمشكلة العنوسة المرتفعة لديها. وإيجاد مسميات متنوعة للزواج بأكثر من امرأة (المسيار) الفرند "الاصدقاء" ... الخ من تلك المسميات التي تهدف للتخفيف من العنوسة والتشجيع على الزواج من أكثر من امرأة.

وختاما :
لقد كان له سبق التميز في الحوار بين الأديان في ذلك العصر منطلقاً من فكرة أن دعوة الأنبياء والمرسلين هي دعوة واحدة وهي دعوة التوحيد إلى الله عند مختلف الديانات.
وتعد قمة السمو الإنساني لدى "الحكيمي" والتسامح الديني ما دعى إليه أيضا في إهداء كتابه (دين الله واحد) بالقول أقدم كتابي هذا هديه .. هدية مني إلى إخواني الأعزاء من بني الإنسانية على اختلاف طبقاتهم ونحلهم ومذاهبهم الرجال والنساء". ثم يضيف أن خير ما يهديه المحب لحبيبه هو ما يحبه لنفسه ويملكه عنده، والذي أحبه هو دين الله الواحد والذي أملكه هو الرغبة في أن يؤلف الله بين قلوب أبناء هذه الأمة الإنسانية التي خلقها الله من نفس واحدة، أبوها آدم، وأمها حواء، حتى يعيش الجميع إخواناً سعداء يسودهم الحب والوئام.
                                                                        

*لمعرفة السيرة الذاتية للشيخ عبد الله علي الحكيمي اتبع الرابط: 





الهوامش

1-   عبد الله على الحكيمي، دين الله واحد، كاردف، مطابع السلام، 1952.
2-   صحيفة السلام, عدد15 مارس 1949م.
3-  د/ فؤاد البعداني ، الحكيمي فكره الإسلامي وجهوده الإصلاحية، صنعاء، وزارة الثقافة، صنعاء عاصمة الثقافة العربية، 2004م.
4-  د/عبد الرحمن عثمان، الحكيمي مناضلا ومهاجرا، من وثائق ندوة اليوبيل الذهبي لصحيفة السلام، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني، 6ـــ 8 ديسمبر 1998م.
5-   عبد الله علي الحكيمي، الأسئلة والأجوبة، بين المسيحية والإسلام، عدن ، مطابع السلام, 1949م.
6-   صحيفة السلام, كاردف, بريطانيا, أعداد مختلفة, 1949ـ 1952م.
7-  عبد الكريم قاسم، الحكيمي مفكرا وداعية، من وثائق ندوة اليوبيل الذهبي لصحيفة السلام، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني، 6ـــ 8 ديسمبر 1998م.
8-  ـ د/عبد الله الذيفاني، الحكيمي الشيخ الداعية المجاهد التربوي، من وثائق ندوة اليوبيل الذهبي لصحيفة السلام، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني، 6ـــ 8 ديسمبر 1998م.
9-  عبد العزيز سلطان، التصوف الجهادي عند الحكيمي، من وثائق ندوة اليوبيل الذهبي لصحيفة السلام، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني، 6ـــ 8 ديسمبر 1998م.
10-          د/ عبد الله معمر، الثقافة الشعبية وعلاقتها بالمرض والعلاج في المجتمع اليمني المعاصر، دراسة سوسيو انثروبولوجية لمجتمع محلي، رسالة دكتوراة ، قسم الاجتماع كلية الآداب جامعة صنعاء، 2001م.
11-          الفرد هاليداي، العرب المهاجرين العرب الأوئل، من وثائق ندوة اليوبيل الذهبي لصحيفة السلام، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني، 6ـــ 8 ديسمبر 1998م.
12-          د/ فارس السقاف، دور التكوين الديني في الجهاد الوطني للشيخ الحكيمي، من وثائق ندوة اليوبيل الذهبي لصحيفة السلام، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني، 6ـــ 8 ديسمبر 1998م.