الا يكفي هذا الانحدار لإنقاذ جامعة صنعاء؟!!!

الثلاثاء، 5 نوفمبر 2013

أخلاقيات المهن الطبية في تاريخ الفكر الاجتماعي



أخلاقيات المهن الطبية في تاريخ الفكر الاجتماعي

ااا/ااااا
                                                                                                          د- عبدالله معمر
لكل مهنة أخلاقياتها من الضروري الالتزام بها من قبل الممارس ولا يكتمل الأداء المهني إلا بها ومن هذه المهن ،الطب ، والطبابة ، الذي تعد في مقدمة المهن التي لها أخلاقيات صارمة منذ الأزل حيث كا ن التطبيب يقوم على أساس الربط بين المرض والمتغيرات التي تطرأ على الطبيعة وحركة الأجرام السماوية عن طريق الربط بين المرض والعوامل البيئية والطبيعية ومتغيراتها المختلفة وقامت تقاليد ممارسة مهنة الطب لد ى العرب أيضاً على مزيج مما توارثه العرب من تقاليدهم العربية الأصيلة ومما نقلوه عن الأمم السابقة.
وقد أشترط أبقراط مبدأ الطهارة والفضيلة في ممارسة مهنة الطب، وهو المبدأ الذي سار عليه الأطباء بعد ذلك.
  وتهدف هذه الدراسة للتعرف على الأسس والقواعد الاخلاقية الخاصة بمهنة الطب والعلاج عبر تتبع تاريخ الفكر الإنساني والمبادئ التي أرستها الجماعات والشعوب وكرستها في ثقافتها وقيمها المختلفة.
ويمكننا تحقيق ذلك بالإطلاع على كتب التراث الطبي في كل من اليونان ومصر القديمة، مروراً بعصر الدولة الإسلامية.
  إن مبادئ وأخلاقيات الطب والعلاج، ظلت وعلى مدى طويل ثابتة ونهائية وغير قابلة للجدل أو الاجتهاد، أما وسائل التشخيص وطرق العلاج فإنها قابلة للتغيير وعليها أن تعتمد على أسس نظرية جديدة وأن تطور من آلياتها بما يخدم الهدف، أي تحقيق الشفاء من المرض.
أولاً :- الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع:
  تعد الأخلاق جزءاً من ظواهر وأنساق المجتمع، ولها وظائفها، وضرورتها الاجتماعية في البناء الاجتماعي كما أنها جزءاً من مكونات وترابط هذا البناء.
  كما تعد جزءاً من نسق القيم الاجتماعية في مختلف المجتمعات ومراحل تطويرها وارتبطت بمختلف الديانات السماوية أو اللاسماوية إذ مثلت سياج لعملية الترابط الاجتماعي، بل إن الشعوب البدائية اعتبرت الأخلاق مكوناً دينياً محض، وجزءاً من العبادة الإلهية. والتمسك بالقيم الإخلاقية تمسك بالدين كنسق تعبدي جعل من الأخلاق سياج الحماية للأسس التعبدية. ومخالفة القواعد الأخلاقية خروجاً عن الديانة وعصيان للمعبود "الإله" وخروجاً عن الطاعة له.
  وقد مثلت الأخلاق جزءا من اهتمامات الفلاسفة والاجتماعيين عبر تاريخ الفكر الإنساني, قديما وحديثا, فمن ابيقراط إلى سقراط وافلاطون، وأرسطو، حتى دوركايم، وشوبنهور .... وغيرهم. ومن المصريون إلى اليونانيون والآشوريون والبابليون، إلى الدول الإسلامية المختلفة.
ثانيا:-أخلاقيات الطب ما قبل ابيقراط
إن الرغبة في الشفاء مدفوعة بوجود ألم، أو عيب ما في المظهر أو في وظيفة من وظائ ف الجسم يختلف تقديرها باختلاف المراحل التاريخية والثقافات والمجتمعات والأديان.
  فمنذ الأزل وجد الألم مصاحباً للإنسان إما نتاج لتفاعله مع الطبيعة، أو نقصاً في الخلق والمكونات البيولوجية، أو لخلل في وظائف أعضاء الجسم ومكوناته، ليمثل خطراً يهدد استمراره ووجوده لصالح الطبيعة نفسها، وإنهاء لعملية صراعه معها. لذلك مثلت الأخطار الموجهة ضد الإنسان موقف عدائي شديد الحساسية لـه. فالكوارث الطبيعية والحيوانات المفترسة، مثلت نموذجاً خطراً على الإنسان إلى جانب الأمراض التي تعد المقدمات الأولى لحالات الموت والانقطاع عن هذا العالم.
فكان عليه التعامل مع هذه الأخطار وفق مبدأ الدفاع والبحث عن وسائل معينة له من خلال مصدر الشر ذاته، فكان ذلك أما بالاحتماء بالطبيعة نفسها عن طريق البحث عن كهوف تقيه من مصادر الخطر أو بالانتقالات من مكان لآخر بعيداً عن الأخطار أو من خلال التعامل مع ما جادت به الطبيعة نفسها من أعشاب ووسائل للعلاج.
1- مصادر المعارف الطبية:
  قد لا نستطيع الجزم في تحديد المصادر الأولى لمعرفة الإنسان بالعلاج، وإن كنا نستطيع تحديد الشعور بالألم، فالشعور بوجود خلل ما في جسم الإنسان أمر طبيعي، وبالتالي فإن مصدر الألم دافع رئيسي للفرد نحو إصلاح هذا الاعتلال.
  أـ الشعور بالألم:
والشعور بالألم يقود الإنسان إلى التجربة والخطأ في البحث عن مصدر الشفاء. فالفعل الطبي يضع شخصاً ما باعتباره مريضاً أمام شخص آخر مشهود له بالقدرة والمعرفة العلاجية.
ب / الاستحداث بدافع الحاجة:
يرى اتجاه آخر أنه استحدث كأي شيء استحدثه الإنسان لحاجة له به، وهذا الاستحداث كان مع محاولة الإنسان للتجربة والخطأ في درء الألم.
ج ـ السحر عند الكلدانيون:
  والاعتقاد الآخر يرى أن الطب استنبط من السحر والأعمال السحرية التي كان يقوم بها الكلدانيون أو أهل اليمن، ومن يرى أن المنبع السري الأول لا يعود للكلدانيون أو اليمنيون وإنما لفارس والهند وبابل.
د- التجريب والتقليد:
  أما الاتجاه الرابع فيرى ان الطب وصناعته قامت على الحاجة والتقليد. أي أن الإنسان يحتاج إلى الشفاء من الألم مثله مثل سائر المخلوقات في الكون. فكان عليه تقليد سلوك البعض منها عندما نشعر بألم مشابه له،
2- الارتباط بين الدين والعلاج:
  نظراً لوجود الاعتقاد بالارتباط الرباني بالشفاء، ولوجود مفاهيم أن الإنسان توصل للعلاج نتيجة لحالة الإلهام من الله تعالى، فقد سيطرت فكرة الشفاء من المرض بضرورة وجود وسيط بين المريض وصاحب الشفاء، أو مانح الشفاء كما أن صعوبة التعريف على المرض والعلاج، جعل من هذه المهنة تحظى بأهمية خاصة عند جميع الفئات الاجتماعية، ومن يمارسها منح مكانة راقية داخل المجتمع كونه يتمتع بقدرات لا يتمتع بها الفرد العادي من المجتمع. مما جعلها مهنة محتكرة بين أفراد الطبقات العليا دون سواهم.
  وساد اعتقاد لدى شعوب عديدة أن المرض عقاب رباني للإنسان لارتكابه المعاصي أو جراء قيامه بفعل أغضب الرب، ومثل هذا ظل الاعتقاد سائداً إلى اليوم في معتقدات الشعوب وكرست الأديان السماوية مثل هذا الاتجاه في تصورات الأفراد القيمية.
  وبصورة عامة فإن الأسس الأخلاقية في ممارسة المهنة الطبية في الدولة الإسلامية كانت تقوم على التالي:
•  التقاليد العربية بما تتضمنه من أخلاقيات.
• التقاليد الطبية المنقولة من الحضارات السابقة.
• تحكيم المبادئ الدينية في والقيم الإسلامية في العلاقة بين الأفراد وبعض.
• النظم الخاصة بإدارة الدولة الإسلامية.
• بالإضافة إلى حث الإسلام على العلم وطلبه والسعي إليه.
3- القسم الطبي قبل ابيقراط:
  منذ وجود الإنسان وجد معه الألم، وبوجود الألم وجدت الحاجة لعلاجه فما كان على الإنسان إلا البحث في الطبيعة من حوله عن وسائل تشفيه من المرض. والاستفادة من الحيوانات والطيور وبمراقبة أساليبها في علاج ألمها وحاول التقليد في علاج ألمه. جرب بعض الأعشاب فأخطأ في بعضها ونجح في بعضها، ومع التكرار عرف الضار من النافع.
  وأن أداء اليمين شرط أساسي للحصول على المعلومات أو دراسة الطب، فبدون القسم لا يتعلم الطالب الطب، والذي أوله عدم إفشاء السر الطبي، أو التعاليم الطبية.
  :- ثالثامن قسم أبقيراط إلى قسم المحتسب
أراد أبقراط توسيع دائرة ممارسة الطب والعلاج بالخروج عن القاعدة التي أرساها اسقليبوس بانحصار المهنة في أسرته, فكان لا بد من وجود ضوابط تنظيمية للمهنة، بحيث تحفظ حقوق الناس وتعيق من الاستخدام المسيء للمهنة من قبل الأطباء، فصاغ ما عُرف بعد ذلك بالقسم الطبي.
أما في عهد الدولة الإسلامية أسند أمر الرقابة للمحتسب فكان من مهامه أخذ العهد على الطبيب والعشاب بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية.
  مما تقدم يمكننا الاستنتاج إجمالاً أن أبقراط أول من حدد أخلاقيات الطب بشكل مكتوب وإن كانت موجودة قبله كنظم وتعاليم أخلاقية على الممارس إتباعها والالتزام بها والذي على أساسه تم تحديد الإطار العام لأخلاقيات الطب.
3- قسم المحتسب ودلالاته الاجتماعية والأخلاقية:
  إن القسم معيار أخلاقي إرساء مبدأ الرقابة الداخلية وإحياء وازع الضمير أو الرقيب الداخلي عند الطبيب كونه المرافق للطبيب في تحركاته ونشاطه دون غيره.
  ويعد قسم أبقراط الطبي من الأهمية الأخلاقية التي تقولبت فيه المهنة على مر العصور والأزمان حتى وقتنا الحاضر.فالأطباء ملزمون بتوصيل علمهم والخروج من العزلة التي كانت قبل ذلك "انحصار الطب في أسرة استقليبيوس وعلى كل من يحوز على المعرفة الطبية أن يقوم بنقلها إلى الأجيال التالية وفقاً للشروط والأخلاقيات المتعلقة بمهنة الطب.
فالكحالون (مثلا) لا يعطيهم المحتسب الإذن بالعمل، إلا بعد إجراء الامتحان المقرر، والخاص بالعيون، وما يتعلق بها من أمراض، وظواهر، وعقاقير، فإن اجتاز الكحال الامتحان أخذ على نفسه قسماً علنياً بحضرة المحتسب، بأن يعمل بإخلاص وأمانة متبعاً أحدث الوسائل في العلاج، وأجود أنواع العقاقير، والأكحال.
 :- رابعاً من أخلاقيات الطب في المجتمع الإسلامي
  ازدهر الطب في أيام الدولة الإسلامية ووصل لمرحلة لم يسبق لها مثيل في العصور السابقة نظراً للدعم والتشجيع الذي كان يلقاه مختلف الذين يعملون في مجال الفكر والعلم من قبل الأمراء والحكام- والذي لم يقتصر على الجانب الإبداعي فقط بل عمل العديد منهم على تشجيع حركة الترجمة من مختلف ال لغات إلى العربية والعكس مما أدى إلى امتزاج الثقافة العربية بمختلف الثقافات الإنسانية مما جعلهم لا يكتفون بالترجمة فقط وبل أكسبتهم خبرة علمية جعلتهم يضيفون عليها إبداعاتهم الخاصة وأهمها:
1- الاحتماء واعتدال الأكل والشرب
2- النظافة والوقاية
3- العلاقة الإيجابية بين الطب والدين
خامساً التخصص الطبي في الشرق العربي الإسلامي
1- تخصص الأطباء:
  عرف قدماء الأطباء المصريين واليونانيين التخصصات الطبية التي كرست عملية الاحتراف الطبي، وظهور فئة من الأطباء المتخصصين.
  يشير هيرودوت في كتاباته عن زيارته لمصر أن مصر وطن الأخصائيين وإن كل طبيب فيها يقصر علاجه على نوع واحد من الأمراض ولا يعالج سواه، وقد وجدت بعض الألقاب الخاصة بتخصص بعض الأطباء على قبورهم، وتدل بعض المؤشرات على وجود تخصصات لأطباء في كل من، الولادة، الزكام، الأسنان، الرمد، والبطن، والشرج...الخ.
  ومثل هذا يعطينا دلالة بأن تعدد وتنوع التخصصات على مكانة المهنة ودقة الضوابط المفروضة عليها، وعلى الطبيب أن يتخذ كل وسيلة تمكنه من معرفة المرض فكان الطبيب يسأل عن تاريخ المرض وكيفية بدايته وشكوى المريض ويستفهم عن نومه وجلوسه ثم يفحصه من رأسه حتى قدميه ويحسه بيديه، ويسأل عن الأمعاء والمعدة والصدر والبطن...الخ.
2- تخصص المستشفيات (البيمارستان):
  أنشئت البيمارستان في مدن كثيرة من مدن الدولة الإسلامية روعيت فيها التخصصات المختلفة، فقاعة للأمراض الباطنية وأخرى للجراحة، وأخرى للكحالة وأمراض العيون، والحميات...الخ، بل وجدت أقسام خاصة بالرجال وأخرى للنساء كما أن الأطباء كانوا عبارة عن طوائف بحسب التخصص ولكل طائفة أو تخصص رئيس له عليها حكم وهو الذي يأذن لهم بالتطبيب.
3- العلاج والعيادات المتنقلة:
  أما العلاج في المستشفيات فقد كان يقدم مجاناً للمواطنين دون مقابل لأن الدولة كانت تتحمل نفقاته، وبالإضافة إلى المحل الثابت "البيمارستان" فقد عرف وجود العيادات المتنقلة والتي كانت تصل للأماكن البعيدة والتي لا يستطيع المريض الوصول بها للبيمارستان ولم يكن يقتصر دور المؤسسة الطبية عند هذا الحد بل كانت المستشفيات تقوم بتزويد المرضى بالماء للاستحمام والغسيل والشرب.
سادسا:-ًالأجـر والكلفة الطبـية
  كانت الحكومة المصرية تدفع مرتبات الأطباء، شهرياً من خزينة الدولة ، ومع ذلك كان يسمح لهم في أخذ أجر إضافي من طالب العلاج سيما الأغنياء منهم أما الفقراء فعلاجهم مجاناً وكان جزءاً من هذه الأتعاب المحصلة يقتطع لصالح المعبد الذي يتلقى فيه الطبيب العلم والمعرفة، ويتضح كل ذلك من خلال الآتي:
1- الدولة والأغنياء يؤمنون حاجة الفقراء:
  كان بعض الملوك يتخذون من الأطباء معالجون خصوصيون لهم ويجزلون لهم العطاء، إلا أن البعض منهم من زهد بالمال وفضل الفضيلة على المال كما رآها أبقراط عندما ألح عليه ملك اليونان بالسفر لعلاج ملك الفرس عندما داهم بلاده الوباء فجاء لأبقراط بمائة قنطار من الذهب كمقدم أتعاب إن جاء إلى فارس حتى سلمه إقطاعاً كبيراً
من الأرض فما كان ألا أن رد عليه ابقراط ذلك قائلاً " لست أبدل الفضيلة بالمال". وهو الذي كان يسعى دوماً لعلاج الفقراء، ولا يمكث في علاج الأغنياء طويلاً.
2- أوقاف الخدمة للفقراء وتكافؤ الجميع في مستوى تقديمها:
  وقد أتبع الأمر ذاته في تقديم الخدمات الصحية والطبية في البيمارستانات الإسلامية والذي كانت تقدم بالمجان أيضاً لكافة الناس ذوي الحاجة إليها. وعند افتتاح السلطان المنصوري للمستشفى المنصوري في القاهرة والتي بنيت عام 1283م أكد أنها لعامة الناس يدخلونه جموعاً ووحداناً شيوخاً وشباباً، وبلغاً وصبياناً، وحرماً، وولدانا، يقيم به المرضى الفقراء، من الرجال والنساء لمداواتهم إلى حين برئوهم وشفائهم، ويصرف ما هو معد فيه للمداواة. ويفرق للبعيد والقريب وللأهلي والغريب والقوي والضعيف والدنيء والشريف والسفلى الحقير والغني والفقير والمأمور والأمير والأعمى والأبرص والمفضول والفاضل والمشهور والخامل والرفيع والوضيع والصعلوك والمليك والمملوك من غير اشتراط لعواض من الأعواض، ولا تعريض بإنكار على ذل ك ولا إغراض، بل لمحض فضل الله العظيم.
وفي هذا تأكيد على أن صنعة الطب لم تكن مهنة للكسب وتجميع المال بل كانت مهنة إنسانية الهدف منها رسم بسمة أمل على شفاه المرضى فهذا أبو بكر الرازي أمهر أطباء عصره توفي وهو يقتات على حساب أخته بعد أن قسي عليه رجال الحكم واشتد به المرض.
3- أوقاف الطب والأدوية:
  أما الأدوية فيذكر ابن أبي أصيبعة أنها كانت تصرف للمرضى مجاناً. في عهد الدولة الإسلامية ويؤيد هذا الرأي ما جاء في وثيقة الوقف للبيمارستان المنصوري... إذ تشير الوقفية إلى أن البيمارستان ... لمداواة مرضى المسلمين الرجال والنساء من الأغنياء المثرين، والفقراء المحتاجين بالقاهرة وضواحيها، من المقيمين بها، والواردين إليها من البلاد والأعمال، على اختلاف أجناسهم وأوصافهم، وتباين أمراضهم، وأوصابهم من أمراض الأجسام، قلت أو كثرت، اتفقت أو اختلفت، وأمراض الحواس، خفيت أو ظهرت واختلال العقول التي حفظها أعظم المقاصد والأغراض وأول ما يجب الإقبال عليه دون الانحراف عنه والإعراض وغير ذلك مما تدعو حاجة الإنسان إلى إصلاحه، وإصلاحه بالأدوية والعقاقير المتعارفة عند أهل صناعة الطب يدخلونه جموعاً ووحداناً، شيوخاً وشباناً، وبلغاً وصبياناً، وحرماً وولداناً، يقيم به المرضى الفقراء من الرجال والنساء لمداواتهم إلى حين برءوهم وشفائهم، ويصرف ما هو معد فيه للمداواة، ويفرق للبعيد والقريب...والغني والفقير...الخ. من غير اشتراط لعوض من الأعواض، ولا تعريض بإنكار على ذلك، ولا اعتراض، بل لمحض فضل الله العظيم.
  وفي هذا إشارة واضحة لتحديد الملامح الأخلاقية بالمارستان المنصوري وهذه الملامح لأهميتها سجلت في وقفية البيمارستان حتى تكون ملزمة العمل بها بما لا يجعل المهنة عرضة للانحدار الأخلاقي والقيمي والرغبة الذاتية لممارسة المهنة.
سابعا:-ًتوريث المهنة
  إن مهنة الطبابة اكتسبت قيم وأخلاقيات منذ البداية الأولى لنشأة الطب بهدف الحفاظ على أخلاقيات الممارسة المهنية. وحتى لا يلجأ القائمين عليها لإتباع أساليب تؤدي إلى ضرر الإنسان بدلاً من الإفادة منه وكون الطب مهنة رفيعة داخل المجتمع يتمتع صاحبها بمكانة اجتماعية عالية تجعله من الفئات العليا. وأصحاب الحظوة توارثها الأبناء عن الآباء فالمصريون القدماء اتبعوا التلقين الشفوي من الأب إلى الابن، أو من الأستاذ إلى التلميذ، حرصاً على سريته، ومن تقاليد المهنة الطبية منذ نشأتها بل ولعله قائم حتى الآن، توارث هذه المهنة أباً عن جد مثلها مثل كثير من المهن والصناعات، ولقد استمر هذا التقليد خلال عصور الطب العربي المختلفة، حيث امتازت بعض الأسر بتوارث الطب، ولعل أشهرها أسرة "بختيشوع" التي مارست الطب في الدولة الإسلامية أجيالاً متعاقبة أثناء الخلافة العباسية.
ثامنا:-المكانة الاجتماعية الرفيعة لذوي المهنة
إن مهنة الطب والعلاج مهنة أخلاقية بدرجة أولى لذا كان ارتباطها الشديد بفئة اجتماعية معينة من الممارسين عبر العصور كونها تسمو أخلاقياً ومهنياً عن بقية المهن إذ ارتبطت بأصحاب الحكمة والفلاسفة "الحكماء". ومع وجود الأديان ما قبل السماوية كان الكهان وسدنة المعابد هم ممثلوا الرب، أو الوسطاء بين الإنسان صاحب المرض والإله صاحب الشفاء، لذا ظلت حكراً على مجموعة معينة من الأفراد حفاظاً على أخلاقياتها، ولم تكن الأديان السماوية بعيدةً عن الإعجاز الرباني والبرهان الإلهي على صدق الأنبياء والرسل، إلا دليلاً آخر على سمو مهنة الطبابة ليس عند أصحاب المرض وممارسي العلاج، وإنما عند صاحب المرض والشفاء "الله سبحانه وتعالى" لذلك كانت أحد معجزات الأنبياء القدرة على شفاء أصعب الأمراض.
  وهي من المهن التي رفعت شأن الأطباء وأعطتهم مكانة اجتماعية عالية داخل المجتمع واحتل الممارسين للمهنة لمراكز عالية في الدولة. ومنهم الكهنة والعرافون، ومقدموا القرابين، والأطباء. الجميع يقومون بعلاج المرضى. إلا أن الأطباء سيما أطباء الملك يشكلون قمة الهرم الاجتماعي التقليدي، والأطباء الأكفاء أكثر تشريفاً ويدفع لهم بسخاء، حيث يتم تبادلهم بين الحكام من مدينة لأخرى كنوع من المجاملة.
  وشكل الأطباء جزءاً من النخبة في مجتمع اتسمت فيه الطبقات المختلفة بالتحديد الشديد ، حيث يجاورون الكهنة، والقادة العسكريين، أو مسئولي المناجم والزراعة ومخازن الغلال العامة.
  وفي عصر الدولة الأموية والعباسية وقرب العديد منهم من الخلفاء والحكام، واستعانوا بهم في التطبيب بعيداً عن الانتماء الديني والسلالي للطبيب. فقد تمتع العديد من الأطباء اليهود والمسيحيين بمكانة عالية داخل الدولة الإسلامية وفي مختلف العصور، ووصل ممارسوا الطب إلى أعلى مراتب الحكم في الدولة "وزراء، رؤساء دواوين، أطباء خصوصيون للملك". وكان للتشجيع الذي لقيه الأطباء من الخلفاء والأمراء أثر بالغ في بروزهم.
تاسعا:-ًشروط ممارسة الطب
1-  شخصية الطبيب وسلوكه:
لم تترك المهنة بعد أن فتح أبقراط تعليمها على الشكل بل ووضع أسس لذلك، كان أولها القسم الطبي الذي يحمي المريض من ممارسات الطبيب، كما وضعت شروط من الضروري توفرها في الطبيب هي: أن يكون المنتظم للطب، في جنسه حراً، وفي طبعه جيداً، حديث السن معتدل القامة، متناسب الأعضاء، جيد الفهم، حسن الحديث، صحيح الرأي عند المشورة، عفيفاً شجاعاً، غير محب للفضة، مالكاً لنفسه عند الغضب، ولا يكون تاركاً له في الغاية، ولا يكون بليداً، وأن يكون مشاركاً للعليل مشفقاً عليه، حافظاً للأسرار، محتملاً للشتيمة، فبعض المرضى يتصرفون خارج عن طبيعتهم، وأن يكون حلق رأسه معتدلاً مستوياً، وثيابه بيضاء نقية لينة، ولا يكون في مشيه مستعجلاً، لأن ذلك دليل على الطيش، ولا متباطئاً لأنه يدل على فتور النفس. وإذا دعى إلى المريض فل يقعد متربعاً ويختبر منه حاله بسكون وتأنى.
  كما وضع شروط لطالب العلم، أو لمن أراد تعلم صناعة الطب أن يكون ذا طبيعة جيدة مواتية، وحرص شديد، ورغبة تامة، وأفضل ذلك كله الطبيعة لأنها إذا كانت مواتية فينبغي أن يقبل على التعلم ولا يضجر لينطبع في فكره ويثمر ثماراً حسنة، فمتى قدمت العناية في صناعة الطب بما ذكرنا، ثم صاروا إلى المدن لم يكونوا أطباء بالاسم بل بالفعل, والعلم بالطب كنز وذخرة فاخرة لمن علمه، مملوء سروراً، سراً وجهراً، والجهل به لمن انتحله صناعة سوء، وذخيرة ردية، عديم السرور، دائم الجزع والتهور. والجزع دليل على الضعف، والتهور دليل على قلة الخبرة بالصنعة.
  وأولى منهجيات الطبيب منذ الأزل "إجراء مقابلة طويلة مع المريض، وأن ينظر، ويلمس ويحس جسد المريض وبعدها فقط يمكنه صياغة التشخيص، والتنبؤ بالمستقبل، ثم يصف العلاج الملائم لنوعية المرض".
  وقد كان كثير من الأطباء يرون في الفلسفة تهذيباً للطب وإرساء لقيم أخلاقية تزيد من قوته وسمو أخلاقه فأبقراط يؤمن بالفضيلة ويجعلها في مرتبة أحب إليه من المال، لذلك رد المال وسعى لعلاج الفقراء مجاناً وعزف من المكوث لدى الأغنياء فترات أطول مقابل المال.
  وتعفف عن الزنا بالرغم من أنه "أحب الزنا" ولكني أملك نفسي".سعياً وراء الفضيلة، وصوناً لمنازل يدخلها لعلاج ساكنيها. وإرساء لقيمة أخلاقية لمهنة الطب. وقسمه الطبي الذي صاغه كله يحافظ على الفضيلة ويلزم الممارس بها منذ بداية طلبه للعلم.
2- الفلاسفة الأطباء والأطباء الفلاسفة:
  ورأى ابن سيناء أن في الفلسفة تهذيب لأخلاق الأطباء وتمنحه الحكمة في عمله، وتنظر إليه الفلاسفة على أنه طبيب، ونظر إليه الأطباء كفيلسوف، وأياً كان الأمر فابن سيناء جمع بين كل من الفلسفة والطب، وغيره كثيرون فالأطباء كان فيهم الأطباء الفلاسفة والفلاسفة الأطباء، فالفريق الأول كان همهم التشخيص والعلاج، والتفريق بين الأمراض المتشابهة، وحسن تدبير المرض، وتجنب الأخطاء، ويتلمسون في ذلك عن طريق التفكير المنظم، بينما الفلاسفة الأطباء يسعون لتنسيق الحقائق واستقامة المنطق، وربط الأسباب بالمسببات، وصدق التقسيم والتبويب، ووضوح ذلك كله، يؤكدون أمور قد لا يغني بها الطبيب في عمله حين يرون ذلك ضرورياً للعرض المنطقي.
أ‌-  3- شروط مزاولة المهنة والرقابة عليها:
  في 684هـ (1283) افتتح البيمارستان المنصوري في القاهرة فأصدر السلطان المنص وري قلاوون مرسوماً بتقليد مهذب الدين أبو سعيد محمد أبي حليقة رئيساً للأطباء في البيمارستان وقلد أخيه علم الدين إبراهيم، وكذا أخيه الثاني موفق الدين أحمد صفة مستشارين في أمور تدريس الطب بالبيمارستان لما اتصفا به من الخلق، والعلم، والكياسة.
  وتعزيزاً لدور الرقابة في الإسلام على الممارسة الطبية، وحفاظاً على الأخلاقيات الخاصة بالمهنة، فقد وضع "أبو الحسن بن رضوان سبعة شروط أو خصال كما سماها) رأى من الضروري توفرها بالطبيب أثناء توليه رئاسة المستشفى المنصوري بمصر هـي:
  أ/ أن يكون تام الخلق صحيح الأعضاء، حسن الذكاء، جيد الرواية، عاقلاً ذكوراً، خير الطبع.
  ب/ أن يكون حسن الملابس، طيب الرائحة، نظيف اليدين والثوب.
  ج/ أن يكون كتوماً لأسرار المرضى لا يبوح بشيء من أمراضهم.
  د/ أن تكون رغبته في إبراء المرض أكثر من رغبته فيما يلتمسه من الأجرة، ورغبة في علاج الفقراء أكثر من رغبته في علاج الأغنياء.
  و/ أن يكون حريصاً على التعليم، والمبالغة في نفع الناس.
  هـ/ أن يكون سليم القلب عفيف النظر، صادق اللهجة، لا يخطر بباله من أمور النساء والأموال التي شاهدها في منازل الأغنياء فضلاً عن أن يتعرض إلى شيء منها.
  ز/ أن يكون مأموناً وثقة على الأرواح، لايصف دواء قتالاً ولا يعلمه ولا دواء يسق ط الأجنة، ويعالج عدوه بنية صادقة كما يعالج حبيبه.
  وكان قد كتب عساف الطبري في القرن السادس الميلادي يحدد أخلاقيات الأطباء "لا تقم بتحضير السم لرجل أو امرأة يريد أن يقتل جاره، ولا تعط تركيبة أو تستأمن عليه أحداً، ولا تقل عنه أي شيء".
  وكتب إسحاق ذكر ابن سليمان في القرن (10م ) في دليل للأطباء "لا تتوان عن زيارة وعلاج الفقراء إذ لا شيء أكثر نبلاً من ذلك. هدئ من روع المريض وأعطه أملاً في الشفاء، حتى وإن كنت لا تعتقد بذلك؛ صدور هذا التأكيد منك يمكنه مساعدة الطبيعة.
  ويرى علي بن زيد الطبري، أن الطبيب الجيد "يختار من كل شيء الأفضل والأكثر ملائمة، ألا يكون عنيداً، أو مهذاراً، أو طائشاً، متكبراً، وألا يكون مغتاباً، وألا يكون مهملاً في مظهره، ولا كثير العطر، أو سوقياً، أو متكلفاً في رأيه، وألا يغتر بنفسه إذا ما وضع في منزلة أعلى من الآخرين، وألا يجب الخوض في أخطاء العاملين في مهنته، لكن عليه أن يحجب أخطاءهم على وجه السرعة.
  أما يوحينا بن ما ساويه فقد ذكر في القرن التاسع الميلادي مجموعة من الأسس الطبية ترتكز على قيم ومبادئ أخلاقية غاية في الأهمية هي:
  أ/ الحقيقة في الطب غاية لا يمكن الوصول إليها: والأدوية الموصوفة في الكتب ضارة ج داً إذا لم يوص بها طبيب حاذق.
  ب/ يجب أن تشك في الذي لا يهتم بأساسيات الطب، وعلوم الفلسفة، وقانون المنطق، وأسس علم الحساب، ويستسلم للمتع الدنيوية خاصة في مجال الطب.
  ج/ على الطبيب ألا يغفل عن سؤال المريض عن كل شيء. داخلياً وخارجياً، من أين يمكن للمرض أن ينشأ، ثم يرجح أيهما أكثر قوة.
  د/ على الطبيب أن يكون معتدلاً: لا يتحول تماماً نحو حياة الدنيا ولا يتجه تماماً نحو حياة الآخرة، لكن عليه أن يجمع بين رغبة الأولى وخشية الآخرة.
  ويشير الرازي إلى ضرورة امتحان الطبيب عن "التشريح ومنافع الأعضاء، وهل عنده علم بالقياس، وحسن فهم ودراية في معرفة كتب القدماء فإن لم يكن عنده فليس بك حاجة إلى امتحانه في المرضى).
  ومن الشروط الهامة التي يجب توفرها في الطبيب أن يكون فطناً وذو بديهة حاضرة لديه القدرة على الاستنباط وحسن التعامل مع المرض والمريض، غير شغوفاً في استخدام الأدوية، بل قادراً على تجنبها قدر الإمكان، فالرازي يشير إلى أن على الطبيب تجنب الدواء قدر الإمكان "مهما قدرت أن تعالج بالأغذية فلا تعالج بالأدوية، ومهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد فلا تعالج بدواء مركب.
4- أهمية دوام الإطلاع مع المشاهدة:
  ومن الضروري أيضاً أن يعيش الطبيب حالة مرضاه ويعايشها معايشة دقيقة فذاك يجعل من الطبيب أكثر حرصاً في البحث عن شفاء مريضه والبحث عن أفضل وأسرع وسيلة للعلاج.
كما يضيف الرازي إلى أن من الصفات الحسنة للطبيب أن يعد نفسه إعداداً حسناً في الإطلاع على كتب الطب أولاً "إن قليل المشاهدة المطلع على الكتب خير ممن لم يعرف الكتب على ألا يكون عديم المشاهدة" و "من قرأ كتب أبقراط ولم يخدم خير ممن خدم ولم يقرأ كتب أبقراط".
ويذكر أن من محاسن الإطلاع بالنسبة للطبيب بقوله: "إنما أدرك من هذه الصناعة إلى هذه الغاية في ألوف من السنين من الرجال. فإذا اقتدى المقتدي أثرهم صار كمن أدركهم كلهم في زمان قصير. وصار كمن قد عمر تلك السنين".
  وفي هذا إشارة إلى أن أولي أخلاقيات مهنة الطب أن يكون مطلعاً على تراث السابقين والاستفادة من خبراتهم قبل بدء الممارسة في العمل، كون الإطلاع يمكن الشخص من إتقان العمل ومصداقية التشخيص، الأمر الذي يقوم عليه نظام دراسة الطب في عصرنا الحاضر.
:- عاشراًعقوبات الخطأ الطبي
1- في المجتمعات القديمة:
  اعتبرت العقوبات التي سنتها المجتمعات القديمة بمثابة الرقيب الذي يحمي الأخلاق الطبية ويحافظ عليها وعلى استقرار الكيان الاجتماعي حفاظاً على بقاء الممارسة المهنية الإيجابية.
  ففي مصر القديمة كان يمنع على الطبيب ممارسة العلاج إلا ما تعلمه الطبيب عن الأولين من الأطباء ذائعي الصيت، ولا حرج عليهم إن لم يوفقوا في القضاء على العلة، وعلى العكس من ذلك فإن إهمالهم في تطبيق تلك التعاليم كان يعرضهم إلى المحاكمة وكانت عقوبتها أحياناً الإعدام.
ويتحمل الطبيب الخطأ الناجم عن تجربة الدواء الذي يجربه على المريض لأول مرة وينتج عنه خطأ طبي الأمر الذي أخاف الأطباء في تعاملهم مع أي اكتشافات طبية جديدة، وتطوير الأساليب ا لعلاجية والإكلينيكية.
ويروي هيرو دوت أن "دارا" ملك الفرس، أصيب بالتواء في رسغه حين سقط من ظهر جواده، وكان محاطاً بأطباء من المصريين، فعندما فشل هؤلاء في علاجه، توجه إلى طبيب إغريقي شفاه، فأغدق له العطاء، وحكم على الطبيب المصري بـ "الخازوق" وكان سينفذ الحكم لولا توسط الطبيب الإغريقي.
  أما المجتمع البابلي والآشوري فقد سن حمورابي ضمن قانون عقوبات لمن يخطئ في الطب والعلاج، إذ أشار بأن على الطبيب الذي يخطئ في إجراء عملية جراحية قطع يده، ومن يخطئ في تشخيص المرض أو دواء أضر بالمريض فعقوبته كانت بدفع مبلغاً من المال حدده القانون كغرامة على الطبيب، وخوفاً من استعمال الأطباء لبعض العقاقير من قبيل الاختبار في المرض وضعت الحكومة قانوناً جازماً يجازي كل من يسيء استعمال هذه العقاقير، وكل إنسان يموت ضحية لهذه التجارب يعتبر موته في نظر القانون جناية عظيمة يستحق فاعلها العقاب عليها أما إذا وصف الطبيب بموجب الأصول الطبية المقررة ولم ينجح فحينئذ يسوغ له الإتيان بما يراه نافعاً من التجارب لشفاء المريض.والمضاد عندهم أن الطبيب كان يراعي في أوامره ما كان يستعمله السلف من طرف العلاج وما كانوا يختارون من العقاقير النافعة.
  عقوبات حمورابي (1728-1686ق.م) أشار إلى ما ينظم مهنة الطب، حيث حدد الأجر الذي يتقاضاه الطبيب أو الجراح مقابل العلاج الذي يقدمه بناء على الوضع الاجتماعي للمريض (أحد النبلاء- تاجر- أو عبد). كما حددت العقوبة التي توقع على الطبيب إذا فشل في أداء مهمته: "إذا قام الطبيب بإجراء عملية جراحية كبيرة لأحد النبلاء منقذاً حياته، فإنه يحصل على عشرة من الشكلات الفنية، أما إذا توفي هذا النبيل فتقطع يدا الجراح، أما إذا تسبب الطبيب في وفاة أحد العبيد، فإنه يقوم بتعويض صاحبة بعبد آخر".
2- في المجتمع العربي الإسلامي:
ومن العقوبات على الخطأ الطبي كان النفي، فقائد جيوش المعتصم في آسيا الصغرى وموقعة عمورية "الأفشين" وجه عدة رسل إلى الصيادلة يطلب منهم أدوية مسماة فما كان من بعضهم إلا أن أنكرها. وبعضهم أدعى معرفتها وأخذ الدراهم من الرسل ودفع إليهم شيئاً من حانوته. فأمر "الأفشين" بإحضار جميع الصيادلة فلما حضروا كتب لمن أنكر معرفة تلك الأسماء منشورات إذن لهم فيها المقام في عسكره ونفى الباقين عن المعسكر ولم يأذن لأحد منهم في المقام ونادى المنادي بنفيهم وبإباحة دم من وجد منهم في معسكره وكتب إلى المعتصم يسأله البعثة إليه بصيادلة لهم أديان ومذهب جميع ومتطببين كذلك , فاستحسن المعتصم منه ذلك ووجه إليه بما سأل.
  ويعد حديث الرسول عليه الصلاة والسلام بمثابة مبدأ عام في تحديد المسئولية الطبية والجنائية التي تقع على الطبيب جرى عمله "من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن" أي أنه مسئول عن عمله ومحاسب عليه ويتحمل الخطأ الذي يقع فيه.وبهذا فإن المسئولية الأولى تتحدد على الطبيب وفق هذا الحديث، والذي يمث ل المرحلة الأولى من تنظيم الرقابة في الإسلام على ممارسة الطب والعلاج.
  أما المرحلة الثانية فتأتي في عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله والذي سن نظم الرقابة الطبيعية في الدولة الإسلامية، وأولى هذه النظم أن يؤدي الامتحان كل من يرغب في ممارسة الطب، كما أمر بأن يكشف عن ممارسة الطب جميع الأطباء إلا من يمتحنه سنان بن ثابت.
  فمن أجيز عاد إلى الممارسة، وفي عهد الخليفة المستنجد بالله فوضه رئاسة الطب ببغداد إلى أمين الدولة بن التلميذ امتحان المتطببين.
  وكذا بالنسبة للصيادلة فقد وجد في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي أشخاص تعلموا موثوقون في كفايتهم لقبوا بالصيادلة حصلوا على تراخيص توليهم حق مزاولة المهنة. فقد سنت القوانين التي تفرض الرقابة الحكومية الدقيقة عليها فعين في كل مدينة كبيرة موظف "مفتش" يعتبر كبيراً للصيادلة فيها أو عميداً لهم للإشراف على تنفيذ هذه القوانين ومراقبة تحضير الأدوية في الصيدليات ونقاوة العقاقير المستعملة. كما كانت هذه القوانين تعرض من يتعاطي صناعة الصيدلة أن يحصل على ترخيص من الحكومة بذلك بعد أداء امتحانات خاصة في معرفة العقاقير وطرق تجهيزها. ثم يقيد اسمه في سجل الجدول الخاص بذلك وأول امتحان أجري لذلك في بغداد عام 221هـ في عهد الخليفة المعتصم.
3- ربط العقوبة والرقابة الطبية بالمحتسب:
  أما المرحلة الثالثة من تنظيم المهنة فقد أسندت مهمة الرقابة الطبية إلى مايعرف بالمحتسب، والمحتسب هو من يبحث عن الأمور الجارية بين أهل البلد من معاملاتهم التي لا يتم التحدث دونها من حيث إجراؤها على قانون العدل بحيث يتم التراضي بين المتعاملين، وعن سياسة العباد بنهي عن المنكر وأمر المعروف، ومبادئه بعضها فقهي وبعضها أمور إستحسانية ناشئة عن رأي ولي الأمر.
  وهذا التعريف يظهر ارتباط نظام الحسبة بالتمدن الذي يعد الطب من أهم المهن التي ه ي بحاجة لرقابة، فيما لو أنسها تسير طبقاً للمبادئ الإسلامية والشرعية، فكان على ولي الأمر أن يعين لذلك محتسباً يراه أهلاً للقيام بهذه الوظيفة، وعلى المحتسب أن يتخذ الأعوان لمراقبة ما يجري من المنكرات وتعزير الناس، وتأديتهم وحملهم على التمسك بأهداب الشريعة وتجنب كل ما من شأنه أن يضر بمصلحة الأفراد.
  ونظمت عملية الحسبة على الأطباء والصيادلة بما يضمن "أن يراقبوا الله في ذلك، وينبغي للمحتسب أن يخوفهم ويفطنهم بالعقوبة والتعزير ويعتبر عليهم عقاقيرهم كل أسبوع.
وعليه أن يتأكد من امتلاك الطبيب لجميع آلات الطب وما يحتاج إليه في صناعته وأن يمتحن الأطباء بما جاء في كتب الطب. وكان من مهام المحتسب أخذ العهد على الأطباء قبل ممارسة المهنة، ومن ثم يكون من حق المحتسب، محاسبة الطبيب على أخطاءه في المهنة، إذ يمثل العهد الذي يقطعه الطبيب على نفسه عند تخرجه ليبدأ العمل.
وكان هذا يجعل الطبيب فيما بعد مسئولاً من الناحية القانونية، عند مخالفة أي شرط من شروط أداء المهنة.
وفي هذا تكريس لمبدأ الرقابة الذاتية على الممارسة فاليمين يعتمد على جعل الرقيب الداخلي للإنسان مسئولاً عن قيامه بعمله وفق المعيار الأخلاقي للمهنة. كل بحسب تخصصه وما يرغب في مزاولته من تخصص.
  وهذا الإجراء الذي يقوم به المحتسب نحو مختلف فئات الأطباء تدل على حرص الدولة على مراقبة حسن العمل، والتدقيق مع كل من يعمل بهذه المهنة، فيكون الطبيب المرخص مالكاً لإذن رسمي، يتيح له ممارسة المهنة بحرية وفق الشروط المتفق عليها، وإذا ما انحرف عنها، أو تجاوزها فإن ذلك يضعه في موقف المساءلة القانونية أمام المحتسب، الذي يمثل الدولة في هذه الحالة.
*** *** *** ***
-" أخلاقيات المهن الطبية في تاريخ الفكر الاجتماعي" محاضرة قدمها د.عبدالله معمر أستاذ علم الاجتماع جامعة صنعاء في ندوة علمية نظمها المركز اليمني للدراسات التاريخية واستراتيجيات المستقبل (منارات).



في الخميس 26 فبراير-شباط 2009 10:01:25 م

تجد هذا المقال في الاشتراكي نت
http://www.aleshteraki.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.aleshteraki.net/articles.php?id=1155

الخميس، 3 يناير 2013

الدولة المدنيـــــة ... والمواطنة المتساوية



مشروع:
الدولة المدنيـــــة ... والمواطنة المتساوية

د/ عبد الله مُعـمَّــر
           أستاذ علم الاجتماع
 كلية الآداب جامعة صنعاء
رئيس مركز منار للدراسات الاجتماعية وحقوق الإنسان
ساحة التغيير ـ صنعاء






تمهــــيد:
إن من أهداف الثورة الشبابية الشعبية السلمية التي تشهدها الساحة اليمنية, بناء الدولة المدنية, وهي جزءٌ لا يتجزءَ من مجموعة أهداف يتمسك بها شباب الثورة اليمنية في ساحات التغيير والحرية, والتي حافظت وتحافظ على سلمية الثورة في إسقاط النظام, والمساهمة في بناء الدولة اليمنية المدنية الحديثة.
وتتبنى في ذات الوقت الأسس العلمية في هيكلة الدولة المدنية المستقبلية بما تحقق الحقوق المتساوية لكافة أبناء الوطن اليمني. الذي تنتفى فيه سيطرة الجماعات والأفراد والحزب الواحد, وكذا الأجهزة الأمنية في منح حقوق المواطنة وصكوك الغفران لأي فرد من أفراد المجتمع اليمني.
لقد مرت اليمن بحالة من عدم الاستقرار والصراع الداخلي بين السلطة والمواطن, منذ خروج الأتراك من اليمن, فالسلطة على مر هذه الفترة تميل إلى ممارسة الاستبداد والتفرد بالسلطة والمال, بتركيزها بيد الحاكم الفرد أو الجماعة الحاكمة, بينما المواطن ظل يرفض سلطة الاستبداد والطغيان ويطالب بحق المواطنة المتساوية بين جميع أفراد المجتمع بكل فئاته وشرائحه المختلفة.
فعلى مدى قرن كامل من الزمن ظل اليمنيون يلهثون وراء إقامة مشروع مدني يمنح الجميع حقوقا متكافئة ويعمل على تأسيس دولة حديثة في الجزء الشمالي والجنوبي على حد سواء.
        وترجع المطالبات الأولى في الجزء الشمالي منه إلى عهد الاستقلال عن الدولة التركية وتسلم الإمام يحيى لمقاليد الحكم, وترجع المحاولات الأولى إلى المطالبات التي قام بها الشيخ عبد الوهاب نعمان من الإمام بصرف عائدات اللواء التعزي على متطلبات الخدمات والمشاريع التنموية في لواء تعز.
ثم تأتي المرحلة الثانية بتلك المراسلات التي قام بها الشيخ عبد الله على الحكيمي, للإمام يحيى ومن بعده الإمام احمد والممتدة منذ العام 1938م, وحتى العام 1953م, تحت مبرر النصيحة الواجبة, ومطالبه المتكررة لهما بإقامة ما يعرف بالملكية الدستورية, أو نظام حكم ملك يملك ولا يحكم, وإقامة انتخابات برلمانية حرة وديمقراطية من خلالها تنقل صلاحيات الحكم للبرلمان والحكومة.
        وضمن هذا الإطار استمرت مراسلات ونداءات مجموعة من الأحرار المتواجدين في المحمية البريطانية عدن خلال فترة الأربعينيات من القرن الماضي, والمتضمنة إيجاد شكل أوضح للعلاقة بين المواطن والسلطة وتحديد صلاحيات الإمام بالجوانب الروحية والإشرافية وترك شئون الإدارة والحكم لعامة أفراد الشعب.
لكن كل هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح في الواقع فالنخب المثقفة في الثلاثينيات وحتى نهاية الخمسينيات كانت تصطدم في أطروحاتها بعقلية الفقيه وإمام المسجد لا السياسي, لحكام اليمن في تلك الفترة (1918-1962م) والذين لم يعملوا على بناء دولة فقط بل ودمروا كل ما كان قد ورثه من بنية تحتية وأسس في أولية بناء دولة حديثة من الأتراك, كانوا قد عملوا عليها خلال الأيام الأخيرة لحكمهم لليمن, وثانيا: اصطدام النخب الثقافية في تلك الفترة بالجهل والأمية السائدة في صفوف الشعب اليمني بفعل السياسة المتعمدة في هذا الإطار ما مثل عائقا شديد الصلابة أمام تلك الرؤى والأفكار التي تبنتها تلك النخب في تلك الفترة, ومثلت حالة من الفهم والطموح المتقدم لم يستطع الشعب والحاكم معا من فهمه والتعامل معه بايجابية كافية, وثالثا: نجد في انعدام البنية التحتية التي تقوم عليها أية دولة حديثة من العوائق الكبيرة التي وقفت ضد تسيير ونجاح مثل هذه الأفكار والرؤى.
وإن كان الأمر مختلفا بالنسبة لستينيات القرن الماضي فالأهداف التي أوجد فيها شباب ثورة الـ 26 من سبتمبر 1962م آنموذجا متقدما يحقق من خلالها اليمنيون طموحاتهم في إيجاد علاقة متوازنة بين الحاكم والمحكوم سرعان ما عمل استمرار الصراع لتثبيت النظام الجمهوري على تبديدها وتبديد كل تلك الطموحات البناءة وكان لجهودهم في الدفاع عن النظام الجمهوري متسعا من الجهد على حساب تحقيق الأهداف في الواقع, والتي جاء بمشروع وطني يحقق بناء الدولة اليمنية وعلاقة أمثل بين المواطن والدولة من خلال النموذج الذي دعت إليه بأهدافها الستة التي فيما لو تحققت لأوجدت لنا نموذجا أفضل من العلاقة بين المواطن والسلطة.
        أما في الجزء الجنوبي من اليمن فقد كان للإستعمار دورٌ في عرقلة نشوء الدولة الحديثة على المساحة الجغرافية بل شجع بطرق مباشرة وغير مباشرة على تفتيت تلك المساحة الجغرافية للجنوب إلى أكثر من 22 سلطنة ومشيخة, وهو الأمر الذي جعل من قيام دولة حديثة أمراً غاية في الصعوبة إذا استثنينا مدينة عدن وهي الجزء الجغرافي الذي كان يهم الاستعمار من جنوب اليمن. أما بقية المساحة الجغرافية للجنوب فقد تركت في حالة من الانقسام على مدى فترة الاستعمار.
غير أن ثورة 14 أكتوبر والحصول على الاستقلال 1967م جعل من توحيد تلك السلطنات والمشيخيات في دولة واحدة جعل منها خطوة أولى في طريق بناء الدولة الحديثة, تمكنوا من خلالها من فرض الدولة وهيبتها على كامل المساحة في الجنوب لتقي تلك العملية توحيد الجنوب وحمايته من مخاطر الانهيار والعودة إلى التشخيص من جديد لتفرض هيبة الدولة الواحدة, وسلطة القانون على كامل التراب الجنوبي.
        غير أن الفعل الناجم عن حركة المجتمع الوحدوية بعد 1990م, لم يجعل من الحلم المرسوم في الذهن آنموذجا في الواقع, بل جسد استبداد الفرد في السلطة. والاستحواذ على السلطة والثروة وإقصاء الآخر والتهميش في إطار جغرافي ضد آخر.
ووفق ذلك تحول الصراع بعد اتفاقية الوحدة من صراع بين السلطة والمواطن الذي كان سائدا في الفترة الماضية إلى صراع بين أطراف النخب الحاكمة ذاتها, أو لنقل بين طرفي أصحاب المصالح من النخبة الحاكمة بين الفئة الاستبدادية المتسلطة في الحكم والتي تنزع نحو الاستئثار بالسلطة وتبعاتها وإقصاء الاخر (نخب الشمال) والفئة الساعية لإرساء مؤسسات دولة. وفرض هيبة الدولة وسيادة القانون (نخب الجنوب), الأمر الذي لم يقبل من قبل مجموعة من أفراد النخبة الحاكمة المستمرئة في عمليات الاستبداد (الشمالية) خلال المرحلة السابقة لتسقط هذا المشروع الهادف لتحقيق جزءٍ يسير من حقوق المواطنة المتساوية أمام سيطرة سلطة الاستبداد والتسلط في علاقتها بالمواطن في حرب 1994م.
 ومن ثم عاد الصراع مرة اخرى إلى قالبه السابق (بين السلطة والمواطن) يشتد أحيانا ويخفت أحيانا اخرى في تناسب مع رفض السلطة الاستجابة لهذه المطالب كامتداد للرفض السلطوي السابق على مدى الفترة التاريخية للصراع. ونلخص الأهداف والرؤى لمجمل قضايا الدولة المدنية المنشودة, بالآتي:
ماهية الدولة المدنية:
يشار إلى أن الدولة تضمن "سلامة الشعب وهي السنّة العليا، ومبدأ عادل أساسي لا يضِّل مَن أخذ به بأمانة قط". ويجب أن تهدف "القوانين إلى غرض واحد، هو خير الشعب ... ولا يحق للسلطة التشريعية ولا ينبغي لها أن تُسَلم صلاحية وضع القوانين لأية هيئة أخرى أو تضعها في غير الموضع الذي وضعها الشعب فيه قط".
من هذا المنطلق تكون مهمة الدولة المدنية الديمقراطية الدستورية المحافظة على كل أفراد المجتمع بغض النظر عن القومية والدين والسلالة والجنس والفكر. فهي تضمن حقوق وحريات جميع المواطنين باعتبارها دولةَ مواطنة متساوية، تقوم على قاعدة ديمقراطية هي المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات, وعليه فالمواطنون لهم حقوق يتمتعون بها، مقابل واجباتٍ رديفة. وهذه المواطنة المتساوية لصيقةٌ كليا بالدولة المدنية، فلا دولة مدنية بدون مواطنة متساوية، ولا مواطنة متساوية بدون دولة مدنية. وعليه فالمواطنة لا تتحقق إلا في دولة مدنية ديمقراطية تعددية دستورية تصون كرامة المواطن وقناعاته في ممارسة معتقداته وأفكاره بالشكل الذي يؤمن بها في إطار الدستور الذي أقره الشعب. وهذا الدستور يحترم كافة حقوق المواطنين وبشكل يوفر لهم العيش الكريم. فإذا لمس المواطن هذه المساواة في الحقوق التي يضمنها الدستور، فذلك يعني انعدام التمييز بين المواطنين لأي سبب كان, صغيرا أو كبيرا أو لجنسه (ذكورا أو إناثا) أو لمركز اجتماعي أغنياء أو فقراء، أو لدورهم السياسي رؤساء أو مرؤوسين، أو لفكرهم يساريًّا أو يمينيًّا، أو منتمٍ لعقيدة أو مذهب ما.
إن أردنا حقا بناء دولة مدنية ديمقراطية فعلينا التعامل مع كل القضايا الوطنية التي تهدد الوطن والسلم الاجتماعي, بشفافية. فالاعتراف بوجود قضية جنوبية وقضية في صعده أمرٌ غير كافٍ في معالجة الوضع الداخلي, بل سيكون بمثابة ترميم للتصدع في نسيجنا الاجتماعي فقط, وهو مر غير كافٍ إن أردنا فعلا تحقيق المواطنة المتساوية من الضروري الاعتراف أولا بوجود قضية وطن بأكمله, فقضية صعده, والجنوب, تساوي قضية تعز المنسية والمتجاهلة منذ 1918م, وتهامة, والصحراء (مأرب والجوف, والمهرة, وشبوة) وحضرموت ... الخ هي قضايا مواطنة متساوية, قضية أو قضايا حقوق وواجبات, قضية انتماء ليمن واحد يتساوى فيه كل أبناء الوطن الواحد. مع الاعتراف بأن للقضية الجنوبية خصوصية خاصة.
وعدم فتح هذه الملفات في مؤتمر الحوار الوطني تعني تجاهل صارخ وفاضح أيضا لمطالب المجتمع في تجاهل قضية وطن ومواطنة كما تجاهلها السابقون على مدى قرن من الزمن. وبالتالي سنرحِّلُ حقوق الغير إلى أجل آخر, قد تتحقق برفع شعارات جديدة تؤسس لبناء دول على مستوى المحافظات اليمنية المختلفة, أو حتى يرفع السلاح من قبلها في وجه الدولة, عندها سنقول لدينا قضية في تعز أو تهامة أو حضرموت أو غيرها.
عــــلاقــــة المواطن بالدولة:
 مما تقدم نجد أن أسس الدولة المدنية, يتلخص في مبدأ تساوي جميع أبناء الوطن في الحقوق والواجبات, بموجب الدستور والقانون وتلك هي أساس بناء المؤسسات في الدولة المدنية الديمقراطية، وأساس هذه العلاقة هي ممارسة الحقوق والواجبات بحرية، وحماية مصالح المواطنين التي تعتبر نواة مصالح المجتمع والدولة. فبدون حرية لا يمكن صيانة حقوق المواطنين، وبدون حرية لا يمكن للمواطنين القيام بواجباتهم تجاه الدولة. فالتفاهم والاحترام يؤديان إلى الالتزام.
ويضمن الدستور المواطنة المتساوية في الدولة المدنية، لحماية هذه المواطنة ومتطلباتها وتفعيلها في الممارسة العملية وليس مجرد قاعدة قانونية. فديمومة المواطنة والمشاعر الوطنية المخلصة تجاه الدولة تتعمق في ديمومة الدولة المدنية ليس فقط في الحرية السياسية وإنما في الديمقراطية، لأن المواطنة لا تتحقق في الدولة الدكتاتورية أو الدولة الاستبدادية أو الدولة التي قاعدتها القمع بدلا من المواطنة، حتى وإن وُجِدت الحرية السياسية، طالما أن تلك الحرية تنسف المواطنة وتُلغي دور المواطن في بناء المؤسسات الديمقراطية المدنية كما هو الحال في اليمن.
فالدولة المدنية مستقبلا بمرجعية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, هي الضمان الحقيقي للمواطنة المتساوية لعموم الأفراد في الحقوق والواجبات دون انتقاص تحت طائلة التبريرات الواهية.
آمال مستقبلية لثورتنا السلمية:
الدولة المدنية الدستورية لا تكون إلاّ في الأجواء الديمقراطية الليبرالية والحرية. فهي ليست تعبيرا عن إرادة وراثية أو عشائرية أو سلطوية فردية أو حزبية أو مذهبية، إنما تعبير عن إرادة الشعب صانع الدستور. وما السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية إلاّ تعبيرٌ عن إرادة الشعب وممثلا عن صوته. فالدولة المدنية الديمقراطية الدستورية عملية ديناميكية تحمي حقوق مواطنيها وتمنحهم الحريات العامة فردية وجماعية بعيدة عن حالة الطوارئ والشخصية الأسطورية, أو الحزب الأوحد أو الفئة أو الجماعة المسيطرة. وتنظم الحياة طبقا للدستور الذي يقره الشعب ليعبر عن شخصيته وكرامته.
وفي ذات الوقت نجد أن فرض سلطة القانون في تحقيق الدولة المدنية غاية في الأهمية بل السياج الواقي من أي انحراف, على أن يبدأ تدخله من محاسبة رموز النظام الحالي وكافة كياناته ممن ارتكبوا جرائم في حق الشعب اليمني. وفق محاكمات شفافة وعادلة تسعى إلى الوصول إلى الحق وليس الانتقام.
في المرحلة الانتقالية التي من الضروري فيها أن يتجه الجميع بكل طاقاتهم إلى صياغة دستور جديد يضمن إقامة دولة مدنية بشكل دائم وثابت, يضمن فيه الجميع عدم النكوص والعودة مرة ثانية إلى دائرة الظلم والاستبداد والتفرد بالسلطة والثروة.
أما القضية الثانية التي على الجميع الانشغال بها خلال الفترة الانتقالية وانجازها، العمل على صياغة قانون انتخابات يضمن لجميع المواطنين حقوقا متساوية, وكذلك لجميع الأحزاب السياسية, ويكفل وصول أعضاء للمجلس من ذوي الخبرة وأصحاب الكفاءات, ويعكس نخبة مؤهلة علميا وثقافيا. وبحيث يضمن النظام الانتخابي حقوق جميع الأصوات.
إن إقامة أي انتخابات قبل صياغة دستور جديد وقانون انتخابات جديد سيبعدنا عن تحقيق أهداف ثورة الشباب الشعبية السلمية, بل هو تحايل على الاستحقاق الثوري و إدراج للثورة تحت طائل الأزمة السياسية, والتفاف على الثورة وأهدافها, وخيانة لدماء الشباب من الشهداء والجرحَى.
دستورنا المطلوب:
نشير إلى بعض مكونات الدولة المدنية التي ينبغي أن يتضمنها الدستور القادم للدولة المدنية والذي من خلاله تضمن المواطنة المتساوية لجميع أبناء الوطن اليمني في ظل حقوق وواجبات يتساوى فيها الجميع:
1ـ الشعب مصدر السلطات, والشريعة الإسلامية مصدر التشريع والدولة المدنية ينظمها الدستور الذي يقره الشعب. والدستور ينظم هذه السلطات, ولا سلطة فوق الدستور، ولا قرار يقيد حرية المواطن وحقوقه التي يحددها الدستور الدائم سواء كان القرار من مرجعية دينية أو عشائرية أو سياسية أو إجتماعية أو اقتصادية أو ما شابه ذلك.
2- الحكم للشعب والسلطة للقانون عبر مؤسساته الديمقراطية المنتخبة انتخابا حرا وديمقراطيا مباشرا من سياسية وعسكرية وأمنية والحد من مراكز الضغط الاستبدادي التي تنسف دَور المؤسسات المدنية بموجب الدستور الذي يقره الشعب من التحكم بمصير الشعب بكافة فئاته مع إيقاف أي تدخل يقيد من حرية الشعب وممارساته الديمقراطية الحرة.
3- الفصل بين السلطات واستقلال السلطتين التشريعية والقضائية عن السلطة التنفيذية. وبناء جيش وطني بمؤسسة عسكرية وطنية المبادئ, يمنية الانتماء شعبية الولاء, لا تتدخل في العمل السياسي.
إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية الاستخباراتية والعسكرية بما يحد من عملية تدخلها في منح صكوك الغفران وحق المواطنة لأبناء الوطن الواحد ومنح بعض الأفراد صلاحيات الاستخدام دون البعض. ووقف التدخل في تسيير الشئون الداخلية والسياسية أو الحد من حقوق الإنسان والمواطنة المتساوية لجميع أفراد المجتمع. بحيث يصبح دورها مقصورا على مكافحة الإرهاب والاستعداء الخارجي للدولة والوطن والشعب اليمني, ومكافحة التجسس والأمن الاقتصادي ....الخ.
نظام الإدارة الداخلية: نجد من الأنسب أن تدار اليمن داخليا وفق نظام المخاليف أو الولايات وتحدد عددها وشكلها.... الخ وفقا لعوامل ديموجرافية وجغرافية في الدستور والقانون الخاص بما يضمن وحدة اليمن الجغرافية والبشرية والحد من أي نزعات تعصبية.
6- سلطات رئيس الدولة ورئيس الوزراء محددة طبقا للدستور, برئيس شرفي حتى لا يتحول إلى ديكتاتوري استبدادي يتحجج بالدستور في شرعيته الاستبدادية, ويعيدنا إلى مربع الظلم والاستحواذ على السلطة والثروة, ورئيس وزراء بصلاحيات برلمانية تنفيذية لفترة واحدة تحدد بخمس سنوات فقط, ويحق له تقديم نفسه للترشح لمرة أخرى. دون زيادة عليها حتى وإن حصل حزبه على الأغلبية البرلمانية في المرة الثالثة من حق الحزب تقديم شخصية أخرى لرئاسة الوزارة للمرحلة الثالثة من نفس الحزب الحاصل على الأغلبية أو من حزب آخر.
7- الديمقراطية تقوم علي التعددية السياسية والثقافية، وهذا يتطلب تعميق مفهوم الوحدة الوطنية ووضع الخطط اللازمة بتحقيقها على أساس الانتماء للوطن والولاء للشعب اليمني وليس لغيره.
8- تنظيمات سياسية تمارس عملها السياسي طبقا للدستور الذي يقره الشعب وليس طبقا لقوانين السلطان الذي فرض نفسه على الشعب عن طريق القوة أو العقلية العشائرية أو الوراثية أو المذهبية. وتعميم ثقافة عامة للقبول بالآخر, ضمن برنامج تفكيك ثقافة الاستبداد. ونشر ثقافة التسامح والتصالح والمواطنة المتساوية وهو الشعور الذي يجعل من جزء من مواطني الوطن يتعامل مع الجزء الآخر بمنطق الفـيد والأنانية والسخرة المتربصة بالغير, وهنا نجد من الضروري أن نعلم أن بناء الدولة المدنية يتطلب التخلي عن هذه الثقافة لصالح بناء الدولة للجميع بعيدا عن حاكم ومحكوم أو باعتماد المنطق الجغرافي في الاستحواذ على السلطة والثروة, وإدارة شؤون البلاد بفرض الأمر الواقع, أو الغالب والمغلوب. إن من أسس الدولة المدنية التخلي عن مثل هذه الثقافة قولا وفعلا.
9- الاعتراف بحقوق الموطنة المتساوية لكافة قطاعات الشعب وفئاته وشرائحه المختلفة، بعيدا عن الانتماء المذهبي أو ألسلالي والعرقي واحترام حقوق الأقليات, وضمان ممارستها لمعتقداتها بشكل لا يشعر أحد فيها بالغبن والاضطهاد ومشاركتها الفاعلة في بناء الوطن. فالدولة المدنية تضمن حقوق الأقليات وتضمن لها مواطنة متساوية مع الأغلبية, فالانتماء إلى الوطن اليمني هو المعيار في الحقوق والواجبات وأساس في المواطنة وليس الغلبة العددية أو الجغرافية المناطقية أو القبلية أو القرب والبعد من السلطة وجماعة النفوذ ففي الدولة المدنية تنتهي كل الامتيازات الفئوية أو غيرها.
10- حقوق الإنسان العمود الفقري للحرية والديمقراطية والمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وصيانة هذه الحقوق قانونيا، وضمان حقوق الأسرة والأمومة والطفولة وحمايتها ومعاقبة الذين يعتدون على المرأة والطفل أو يقف ضد حقوق الإنسان بأي صورة من الصور. لاسيما حقوق الطفولة, واعتبار كافة القوانين والتشريعات الصادرة عن المنظمات الدولية مرجعية أساسية في هذا الجانب.
11- حرية الصحافة ووسائل الإعلام واستقلاليتها عن سيطرة الدولة وحرية نشاط الأحزاب والنقابات والجمعيات الرسمية والأهلية وصيانة حقوقها في العمل المنظم.
12ـ ضمان انتخابات حرة وديمقراطية تكفل بها حقوق جميع الناخبين وعدم إهدار أصوات كل من أدلى بصوته في الانتخابات. وهنا نجد مشروعية إيجاد صيغة جديدة للعملية الانتخابية وهيكلة النظام الانتخابي برمته أمرا في غاية الأهمية لضمان تكافوء الفرص أمام جميع الأفراد والجماعات.
المرجعية في الدولة المدنية:
فالدولة المدنية يجب الاتفاق عليها وعلى مرجعيتها من خلال عمليات التوافق الاجتماعي، والنخب والتيارات المختلفة، والمتمثل في نصوص الدستور المقر بالاستفتاء العام والمباشر. وهنا لا ينبغي لطرف أن يدعي لنفسه حق الاختيار نيابة عن المجتمع، ولا ينبغي لطرف أن يفرض الوصاية على الأطراف الأخرى، أو يفرض الوصاية على المجتمع. فالدولة المدنية لا تقوم إلا في مجتمع يغلب عليه الطابع المدني، والمجتمع هو صاحب الحق في اختيار المرجعية المتمثلة في مجلس النواب.
وحتى لا يصبح الدستور مجرد نص يحق لأي حاكم (فرد أو جماعة) العبث به كيفما يريد .. نجد من الضروري تقييد عملية التغيير أو تعديل كل أو بعض مواد الدستور المصاغ في الفترة القادمة خلال مدة زمنية لا تقل عن عشرين سنة  (مثلا), على أن يكون لعدد محدد من المواد, مع عدم مس المواد الأساسية وتبني الثبات الدائم لها, حتى لا يصبح عرضة للأهواء الخاصة لفرد أو لجماعة. وإن كنا نجد في شباب الثورة المرجعية الحقيقية والضمان الأكيد في الحفاظ على الأهداف الثورية, وفي ساحاتهم الضمان الأكيد في مراقبة عدم الانحراف المستقبلي عن أهداف ومبادئ الثورة ومعايير الدولة المدنية المتوافق عليها ........
نسأل الله التوفيق,,













نشر هذا المشروع في:


ـ صحيفة الوسط 8 يونيو 2011م.
ـ الموقع الإلكتروني لمركز منار للدراسات الاجتماعية وحقوق الإنسان.
ـ عمم على اللجنة التنظيمية بساحة التغيير بموجب مذكرتنا في 10/10/2011م
ـ صحيفة الوحدوي ع 11/10/ 2011م.
ـ عمم على قيادات المجلس الثوري ساحة التغيير 13/10/2011م
ـ عمم على اللجنة الإعلامية بساحة التغيير 13/10/2011م.
ـ ندوة في منصة ساحة التغيير 17 نوفمبر 2011م.
ـ محاضرتي في منتدى صنعاء الثقافي, 5 ديسمبر 2011م., وفي 19 مارس 2012م
ـ حلقة نقاش حول الربيع العربي دمشق, ديسمبر 2011م.
ـ ندوة في منصة ساحة التغيير صنعاء, 13 يناير 2012م
ـ قدم ضمن فعاليات مؤتمر بيروت (اليمن الذي نريد) 18-19 يناير 2012م.
ـ عمم على مجلس الوزراء بمذكرتنا في30/1/2012م, للأستاذة جوهرة حمود وزير الدولة
 ـ عمم على أعضاء اللقاء المشترك 7/2/2012م.
ـ نشرته صحيفة اليقين صنعا, 3 مارس 2012م
ـ مقابلة في قناة اليمن حول: الدولة المدنية في 27 ابريل 2012م
ـ عمم على أعضاء لجنة التواصل في 7/7/2012م
ـ وزع منه أكثر من 2000 نسخة على شباب ساحة التغيير بصنعاء.