الا يكفي هذا الانحدار لإنقاذ جامعة صنعاء؟!!!

الأربعاء، 30 يونيو 2010

1-2 السيرة الذاتية للشيخ عبد الله علي الحكيمي




السيرة الذاتية لزعيم الاحرار

الشيخ عبد الله علي الحكيمي



د. عبد الله معـــمــــــر

اجتمعت النسوة في ليلة ما ... من شهر ما... من ليالي 1900م، على صراخ إحداهن في قرية حُليس بالأحكوم حجرية اللواء التعزي... كان صراخ المرأة يرتفع ليعانق خرير الماء القادم من الناحية الشمالية لدار "سعد أحمد".. وضوء القمر الساطع .. مع صوت الماء، يعانق الزرع الأخضر في الأرض الطينية... لتتمكن تلك المرأة من استنشاق أكبر كمية من الأكسجين، أو الهواء كما تسمية النسوة التي لا تعرف ما هم الأكسجين، ولا من يساعد هن على المخاض غير تلك المرأة الطاعنة في السن ممن اكتسبت الخبرة ممن سبقها منهن.
بين أصوات النسوة... يظهر صوت الوليد ... تقول إحداهن ... اللهم صلي على النبي... انه ولد... بشروا ... على سعد، انه ولد... 
أسماه عبد الله .....

... كبر الصبي متنقلا مابين غيل الماء الذي لا ينضب طوال العام... و اللون الأخضر .... وكتاب القرية ... وحب الطين الممزوج بريحه العطرية التي تفوح في الأرجاء.، وكلما كبر في السن يزداد حبه لطين الأرض...

الصبي عبد الله .. ككل الصبية في قريته وقرى اليمن الأخرى .. محروم من المدارس والتعليم .. والصحة وكل ما يمت إلى إنسانية الإنسان اليمني والعيش الكريم بصلة .. الصبي عبد الله بدت عليه .. ملامح التأمل والتفكير والنظر إلى ما هو أبعد من قريته .. يتأمل من نافذته الصغيرة ليلاً فيرى نوراً ساطعاً .. وقمراً كأنه الشمس .. يزداد الليل سكوناً .. فيزداد صوت خرير الماء القادم من أسفل القرية بجوار الدار .. فيزداد القمر سطوعاً .. الصبي عبد الله يتأمل بعقله سر الربط بين كل هذا .. من يقوم بهذا .. التناغم .. من يدير ذلك .. ومن هو المسئول؟

اليافع عبد الله تتزاحم الأسئلة في ذهنه فيقولون له في "حُليس" إنه .. الله .. ولا أكثر من ذلك .. فالقائل لا يعلم أكثر من السائل!! ونهاية الدنيا عندهم نهاية الجبل المقابل أينما تغرب الشمس. ولاشي غير ذلك، تلك هي معارف الناس في عهد الإمامة ... جهل مطبق.

الله .. الله .. من هو الله .. كيف صفاته .. ما هي ماهيته ما لونه؟ ما .. ما ..
 
لا أحد يجيب ... لا أحد لديه إجابات!!

بغير الله ...... من نصلي ونصوم له ... وينزل لنا المطر من السماء! !

**
.... تسمع قرعات على الباب ذات ليلية .. مع أصوات و (نباح) الكلاب ..
لقد عاد من عدن .... علي سعد الحكيمي .. عاد من عدن....
ـــ يسأل .... أين عدن ؟؟
عدن أخر الدنيا ... بلد في البحر ... من يذهب إليها قد يعود وقد لا يعود... ولا شي غير ذلك.
ــ علي سعد ركب السيارة من الشيخ إلى المفاليس .. وفي المفاليس توقفت هناك حيث تنقطع الطريق .. استقل علي سعد الجمل كغيرة من أبناء قريته والقرى المجاورة .. ما بين راكباً وسائراً على قدميه.
بعد يومين كاملين من المعاناة ومكابدة الطريق يصل علي سعد إلى "المصلى" في سوق الأحكوم والقرى المجاورة .. يغسل قدميه بماء الغيل الجاري في وادي ذي العرش فيحس بدفء الأهل وحرارة عناق الأرض الخضراء، وحيرة وشغف ذاك اليافع في المعرفة .. يظل علي سعد ... سائراً بين الماء وقدماه تلامسان الرمل المبلل في أعماق الوادي لترتوي قدماه ... و يشعر به يسرى في كل جسده.

ــ يعانق ذاك اليافع يضمه إلى صدره فلم يره منذ سنوات .. يهمس في أذنه.
- لا تحزن ستكون معي عندما أعود إلى عدن.
- في عدن سيوجد من يجيب على كل تساؤلاتك.
- في عدن تزول الحيرة عنك؟؟

في عدن بحي المعلا – حجيف – هناك ستكون معي حيث يوجد رجال علم وفقه ولغة عربية ومعارف أصول الدين – وحيث ألعبادي، والقاضي عبد الكريم الهندي القدسي ، والشيخ قاسم سرور، ستكون معي .. حيث هؤلاء المعلمين الأجلاء لتنال بعض المعارف على أيديهم .. لن يعجز أحد عن الإجابة عن تساؤلاتك .. فهم خير ما في اليمن من معلمين في زماننا هذا.

**
عبد الله .... اليافع ذو الثالث عشر ربيعاً يصل عدن بعد رحلة معاناة ما بين السير على الأقدام والركوب على الجمال والحمير .. وما بين "المركوبة" تلك التي يراها لأول مرة .. تلك الآلة الشيطان التي كانت تعد في نظر اليمنيين من علامات يوم القيامة.
بعد معاناة استمرت لأيام يصل اليافع عبد الله إلى .. حجيف ... يظل يبحث عن المعرفة متنقلاً بين ثلاثة من أفضل رجال العلم والمعرفة في عصره.
تمر السنوات الخمس باحثاً عن إجابات لكثير من التساؤلات .. لكن التساؤلات تزداد والإجابات لا تتوفر .. فالمعرفة توفرها في يمن الحكمة والإيمان محدودة .. حتى وإن كان لديك الرغبة في توسيع المعارف .. فلا تجدها ..
تزداد الحيرة لديه أكثر .. فأكثر فيقرر الهروب منها إلى الأمام .. ثم الى الأمام
- تساؤلات.. لا تجد إجابة .
- تفكير عميق .. وتأمل واسع .
- صراع الرغبة يتجاذب ما بين الداخل الطموح .. والمحيط المقفر الأجدب.
لكن لا بأس .... الفتى ... حصل على معارف كثيرة ... وتعلم اللغة الإنجليزية.....
ــ يتأمل العمر إنه الثامن عشر يسأل عن التاريخ إنه العام الثامن عشر بعد الألف وتسعمائة.. حكومة الاستعمار البريطاني تقرر تدريب وتجيش كتيبة من أبناء اليمن ممن هم من خارج مدينة عدن "المحميات" فيكون للشاب عبد الله بن علي سعد أحمد الأشعري الحكيمي مكاناً فيها .. فربما في ذلك نهاية للحيرة وتوقف عن تزاحم التساؤلات في الذهن الواسع .. وربما يكون في الهروب إلى الأمام مخرج واستكانة لحالات القلق على المستقبل والخوف على الجيل الآتي من زمن أكثر سوءً ، مما هو فيه.
لكن الكتيبة اليمانية الأولى لم يكن بها الحال أفضل مما كان، وإن كان على الصعيد الشخصي وصل فيها الحكيمي إلى رتبة ضابط، لكن على الصعيد العام زادت من حيرته وأكثرت من التساؤلات لديه والمقارنات بين واقعه وواقع العالم الآخر. بل أظهرت للحكيمي أن عالمه اليمني لا يوجد له مثيل في السوء والرتابة والجمود والتخلف في كل بقاع الأرض. وإن كان مثل هذا غير جازماً فقد يكون ما في الذهن أضغاث أحلام في ليل الواقع..
إذا ... لا بد من اكتشاف المجهول .. لا بد من ركوب الموج والغوص في أعماق البحر بحثاً عن حبات لؤلؤ منثور في أعماق البحر المتوسط أو وسط الصحراء بين أسوار المدن .. إنه العشق .. إنه العشق المشتعل ناراً .. عشق العلم .. والمعرفة .. عشق الباحث عن إجابات لتساؤلات لا تنقطع .

***
إنه العام 1925م الشباب يتدفق في خطى الواثق بالمجهول يركب الشاب عبد الله علي الحكيمي الموج بسفينة فرنسية من ميناء عدن نحو مواني عديدة لا أحد يعرف متى ترسوا في الميناء القادم بعد أن تترك الأول.. تنتقل السفينة من مكان لآخر .. ومن ميناء لأخرى .. وفي كل ميناء يتوقف فيها يجد يمانياً مهاجراً تاركاً لوطنه.. وأهله .. بحثاً عن لقمة عيش يقتات وبقيت من هم في ذمته منها.. وقبل هذا و ذاك لا بد من ترك "حق الإمام يحيى وعماله جانبا".. في كل ميناء وجد الحكيمي حكاية .. حكاية شعب محروم من حق الحياة .. وأمة تئن وتصرخ من شدة المعاناة.. وجهل مطبق على السمح والبصر وخيبة أمل من تحسن الحال.. فالإمام هو الإمام ... عقيم الفكر والتفكير..... عدوا لشعبه وآمته.
... وتساؤلات تزيد من حيرته ...

خمس سنوات بين الأمواج وفي البحار خدمة لبلد غير بلده .. وأناس غير أهله .. لكنه القدر .. مثله مثل كل اليمانيين المشردين في كل بقاع الأرض... وسبيل في تغيير وضعه .. فالتعلم محدود .. والمعرفة قاصرة .. البلد غير بلده .. والبحر لا يغني بالمعرفة .. وبلده العيش فيها محال .. والحال زواله من المحال ..

توقفت سفينته كثيراً على مدى الخمس السنوات في أكثر من ميناء بشمال أفريقيا وفرنسا ومرسيليا .. وفي كل مكان كان يسمع عن الشيخ أحمد مصطفى العلوي الجزائري .. في كل مكان يسمع عن الزاوية العلوية .. يسمع عن مركز إشعاع في مقاومة الظلم .. وفي بلد يوجد من يستحق المقاومة لأنه ظالم.... يسمع عن مقاومة الاستعمار .. وفي بلد يوجد استعمار وآن له أن يرحل .... في ميناء يسمع عن سد جوانب النقص في المعرفة في الزاوية العلوية .. ولديه جوانب نقص يرغب في سدها .
زاد الصراع لديه فحلم نهاية العام 1930م بالشيخ أحمد مصطفى العلوي يدعوه .. فلما رست السفينة في الميناء نزل منها دون عودة .. سئل عن الزاوية العلوية وعن مدينة مستغانم وبينما هو كذلك .. استيقظ عند صلاة الفجر الشيخ العلوي ليجمع تلاميذه (سيأتيكم اليوم .. أو غداً رجلاً قصير القامة .. من بلد بعيد .. من الشرق يملئها الظلم والجور .. سيكون له شأن عظيم في بلده ).. ذاك هو الحدس الصوفي .. أو ما يمكن أن تسميه الاستشعار عن بعد "الطاقة الكهرو مغناطيسية".
تذرف قدمي "الشاب عبد الله" بعد صلاة العصر بوابة المسجد العلوي، مسلما على طلاب العلم حول شيخهم فيرفع رأسه على الصوت القادم الذي يسمعه لأول مرة ... (ذاك هو من حدثتكم عنه.... لقد رأيتك في منامي ... نعم أنت هو)، يجلس عبد الله بن علي الحكيمي بجوار الشيخ أحمد مصطفي العلوي لما يزيد على أربع سنوات، محت كل ما كان قبلها من سنوات عجاف ... وزالت الحيرة، وأجيب عن التساؤلات وردت الروح وغذي العقل .. حتى نال من شيخه الإجازة ... الشيخ "التام الكامل العام" لما أبداه من قدرة فائقة على الاستيعاب وفهم المعرفة وذكاء العقل، وحسن البحث، ونبل في الإطلاع. وفجأة تداهم سكرات الموت شيخه الجليل بعد أن أجازه مرشدا وداعية مسئولا عن الزاوية العلوية في عموم اوروباء، لكن الوفاء يمنعه من ترك مستغانم وشيخه طريح الفراش، ليظل بجواره حتى يوارى الثراء داعيا له بالرحمة والمغفرة ... حاملا الحزن بين أضلعه راحلا الى مرسيليا عن طريق باريس .... وفي مرسيليا يظل بضعة أشهر مع أبناء وطنه المهاجرين ... ويبدأ في تأسيس الجمعية الإسلامية العلوية في مرسيليا.كان ذلك في العام 1936م، والذي غادرها أيضا الى بلجيكا ثم هولندا ليستقر بضعة أيام في أهيو ... بهولندا...... ويصل بعدها الى ....
ــ ليفربول
ــ هول
ــ شيفيلد
ــ كاردف

..... لتكون كاردف مبتغاة ومضجعه الأخير ...... انه اليوم .... من شهر مايو 1936م, ليظل ثلاثة أشهر يدرس حال الجالية بضيافة حيدر سلام ألعريقي، من المهاجرين اليمانيين، ليقرر بعدها من أن كاردف أنسب مكان للإقامة, فعدد المهاجرين فيها كثير والتزامهم بقضايا الشرع والدين منعدم والأمية منتشرة بعددهم، وأبنائهم يزيدون عن 600 فرد كلهم يشبهون أبائهم في التعليم. والكلمة متفرقة والتباين حاصل على أشده، لا جمعية تجمعهم، ولا مساجد للجميع والجماعة اللهم إلا من بعض الغرف المتواضعة اتخذت في مؤخرة البيوت لمن يقيمون الصلاة، لا توجد لهم مقابر إسلامية يقبرون بها موتاهم، بل يقبرون على غير قبلة وكل ثلاثة وأربعة في قبر واحد، وقس على ذلك عقود الزواج، وتسمية الأبناء, وتربيتهم المذبذبة بين الديانتين، وهكذا في سنة الختان والذبائح الشرعية والشعائر الدينية على اختلافها.... وبعد أن درس الحالة ... رأيت ان خير وسيلة تحقق هذا كله تأسيس جمعية .. بواسطتها يمكنني اجتياز العقبات وتذليل الصعاب.
الشيخ رائداً للمجتمع المدني .. يقول عن أسباب اختياره لكاردف ... فقد درست الحالة ورأيت أن خير وسيلة أستطيع بطريقها جمع المسلمين إلى صف واحد والتخفيف من حدة بعض الخلافات وإيجاد شيء من النعمة، .. أقول رأيت أن خير وسيلة تحقق هذا كله.. هو تأسيس جمعية بواسطتها يمكنني اجتياز العقبات وتذليل الصعاب ... هكذا يتناول عمله في تنظيم شؤون الجالية بكاردف. شيخ المجتمع المدني .. شكل منظمات جماهيرية تدافع عن حقوق الجالية.
في كاردف يشرع الشيخ الجليل في تأسيس الجمعية الإسلامية العلوية كإطار عام ومرجعي لتنظيم شؤون الجالية الإسلامية، ومنها تنبثق كافة المؤسسات التنظيمية الأخرى، من المركز الإسلامي والزاوية الصوفية العلوية، ومدرسة لتعليم أبناء المهاجرين العرب والمسلمين، ومكتبة عامة، وقاعة للمحاضرات، ومكان عبادة لكل المسلمين .. مسجد نور الإسلام ..

الشيخ الداعية في كادرف .. لا يجد مكاناً يصلي فيه كبقية مسلمي كاردف البالغ عددهم حوالي 5000 خمسة آلاف نسمة يفتح صندوقاً للتبرعات الاشتراك في عضوية الجمعية فيشتري ثلاثة من المنازل المتجاورة بمبلغ خمسمائة جنية .. يدخل عليها تعديلات .. ويحولها إلى مسجد مؤقت.. وفي العام 1937م يفتتح المسجد للصلاة ويدعو إليه سفراء الدول الإسلامية.

الشيخ الداعية يستكمل تنظيم شؤون الجالية الإسلامية بكاردف يربط بين الدين والمجتمع المسلم .. يعرفهم بقيمهم الإسلامية في تعاملاتهم وإدارة شؤونهم .. الذبح قبلة .. عقود الزواج والنكاح .. غسل الميت ودفنه .. والأهم من هذا أوجد مقبرة خاصة بالمسلمين.

الشيخ الداعية ينخرط بين أوساط المجتمع الإسلامي ، والمجتمع البريطاني معلناً عن سماحة وفضائل الإسلام كدين خير ومحبة وسلام ، يتقرب منه عدد ممن أحبوه .. وأحبوا دماثة أخلاقه طالبين الدخول في الإسلام .. لا يترك امرأة متزوجة من رجل مسلم إلا ويدعوها إلى الدخول في الإسلام.
الشيخ الحكيمي الداعية .. يرى في العلم طريقاً وسراجاً منيراً لكل من يريد النور .. اهتم بتعليم أبناء المهاجرين ذكوراً وإناثاً .. علمهم الدين وأصوله .. اللغة العربية وآدابها .
استقر الحال وأثمر ما قام به من تنظيم للمجتمع المسلم في بريطانيا بسرعة فائقة وقدرات غير عادية برزت من خلال ذلك الشخصية التنظيمية والقيادية الفذة التي من خلالها برز الحكيمي كقائد وطني.
كان يرى في العلم نوراً ومشعلاً فراسل وزارة المعارف المصرية والأزهر الشريف مطالباً باعتماد منح لعدد من اليمنيين أبناء المهاجرين في بريطانيا فاعتمدت له خمس منح في العام 1940م سنويا.
لكن حبه لوطنه المرتبط بإيمانه، جعله يبحث عمن يحملون في أجوافهم إشعاع نور وبصيص أمل لتكون فاتحت الخير الأولى مع الأستاذ/أحمد محمد نعمان العام 1938م يشكو إليه الهم ويخبره بأن هناك مجموعة من أبناء اليمنيين يريدهم الوصول إلى الأزهر والذي يوافق على منح الشيخ الداعية خمس منح سنويا إلى الأزهر .... يشد الحكيمي الرحال إلى أرض الكنانة برفقة ثلاثة من طلابه فقط .. نعمان عبده علي العبسي، ونعمان محمد عبده القاضي ، وحمود سليمان .. ويتعذر سفر الأخيرين بسبب المرض .... تشق سفينتهم البحر لتصل إلى بور سعيد في 1 مارس 1940م. ليكون في استقبالهم الأستاذ أحمد محمد نعمان، و الهلالي محمد من الجزائر، وعثمان الأزهري، وزكي محمد شاهين من إدارة القنال وعدد من رجال الصحافة المصرية وفي مقدمتهم موفد عن أبي الحسن، محمد على الظاهر من جريدة الشورى المصرية.
الصحافة المصرية تتابع أخبار الرجل الواصل إلى الأزهر الشريف... ذاك الداعية الإسلامي الكبير في عموم أوروبا، وخبر مقابلته لشيخ الأزهر محمد مصطفي المراغي .. الذي بادره بالقول:
"لقد قمتم يا شيخ عبد الله بواجب كبير ، وأديتم رسالة الإسلام في أوروبا ، وهذا ما كان ينوي الأزهر القيام به ، وإذا بكم قد حزتم السبق فاستقيتم من الله الرضي ومن المسلمين الثناء". وتجري العديد منها الحوار معه وتبرزه كداعية إسلامية عظيمة ... يتنقل برفقة الأستاذ أحمد محمد نعمان ، والهلالي محمد والذي أصبح مسئولا عن البعثة في مصر، وعثمان عبد الله الأزهري، بين معالم القاهرة والإسكندرية، حتى غادرها بحراً إلى ميناء عدن ليصلها في إبريل من عام 1940م.
**
التعليم يظل هاجس الشيخ المعلم عبد الله .. بعد عشر سنوات من الغياب عن وطنه .. يزور أنحاء مختلفة من العالم يرى فيها أن العلم طريق النور والتقدم والرقي.. وأن العلم سبيل في بناء الأوطان .. وفي وطنه الكل محروم من العلم والكل يعيش في الظلام.. ما يدفعه لفتح مدرسة في سكنه بالشيخ عثمان فور وصوله إلى عدن.
لكنه يحن إلى صوت الماء، وعطر الأرض الطيني.. يحن إلى معانقة القمر لسنابل القمح وسط أصوات "الضفادع" بين أشجار "الدندل" .. وفحيح الأفاعي المتربصة بفريستها من الضفادع الليلية. ليعود إلى تلك القرية الصغيرة الأحكوم ـــ حُليس ــ قبل أن يفل العام 1940م .. يركب السيارة من منزله في الشيخ عثمان صوب لحج ثم يتجه غربا بين رمال "خبت الرجاع" نحو الوهط .. فالمفاليس ... تصل به السيارة الى المفاليس يحاول أن يترجل منها ... ينظر إليه السائق سفيان حيدر ... لا يا شيخ ... هذه المرة الى القرية ... الى المصلى ... الأحكوم ... حُليس .. توقفنا فقط للتفتيش ....
ــــــ تتجه السيارة نحو مجرى السيل القادم من الغرب ـــ وادي الصميتة ـــــ لبضع كيلومترات مع أصوات الماء بقطراته المتطايرة في كل الأرجاء ... تتجه السيارة يمينا نحو الشمال، لتسير في طريق القديم ، كان يعرفها جيدا ... إنها طريق الجمال المحملة بالبضائع من المفاليس نحو بقية مناطق الحجرية الأعبوس ، الأعروق، والأغابرة، والأعمور، والزبيرة، وقدس، والأحكوم، وشرجب، وذبحان، والمقاطرة، والأصابح، ..... الخ. حتى أن البعض منها كانت تصل إلى مدينة تعز.
ــــــ يتحدث السائق سفيان حيدر من أبناء عمومته .... أنا يا شيخ عبد الله أول من غامر في هذه الطريق، عام 1932م.
ــــ كيف !!
ــــــ كانت هذه طريق القوافل تمر بها الجمال والحمير لنقل البضاعة،* وعندما زاد عدد الجمال وسعت الطريق بنقيل العذير باليد والمفرس ... للجمال والحمير، لكن أنا قررت أمر بها بالسيارة اللندروفر ..... وأنت تعرف .. بعد العذير الواحد يرجع السائلة نفسها ... على طول بالسيارة إلى المصلى ... والسائلة لا تحتاج رصف ولا تسوية ... وأنا أول واحد يصل بالسيارة قبل ثمان سنوات إلى بركة المضيق ... أنت تعرفها قبل المصلى بحوالي واحد كم ... بعدها كل أصحاب السيارات الذي كانوا على الخط ( ساروا بعدي) ... والآن المصلى مدينة ليل ونهار شغال. أكثر من ثمان سيارات في الأسبوع تصل من عدن ركاب وبضاعة ... حتى السيارات الكبيرة تصل عنتر ناش " السيارات الأمريكية أنتر ناشيونال" .
كان يحكي ... و الشيح يزداد انشراحا لما يسمعه من كلام...
المصلى ... لا تبعد عن داره سوى بضع أمتار .. أصبحت سوق تجاري ونقطة تجمع وعبور لكافة المناطق في اللواء التعزي ... ذاك السوق الصغير أصبح مركزا اقتصاديا مهما ... وبوابة عبور لعدن ... ومن ثم لكافة أنحاء العالم.
تنتهي السيارة من العذير صعودا .. وهبوطا.. لتنحرف قليلا نحو مجرى السيل مرتا ثانية .. فالسائلة لا تحتاج إلى شق أو تسوية لتمر السيارة... فالله سواها منذ الأزل بما ينزل بها من سيول من المرتفعات الجبلية لقرى الحجرية....
ــــــ تشق السيارة طريقها وسط الوادي ... وادي الأثاور ... والأعبوس ...متجه نحو الغرب صوب وادي ذي العرش تعانق الرمل الصخري الممزوج بأحجار السيل المتكورة .. فتارة تلامس إطاراتها أحجار الوادي المختلفة الأحجام ... وتارة أخرى تلامس الرمال ... وما بين هذا وذاك يترنح الشيخ يميننا وشمالا .. مع حركات السيارة التابعة لما تلامس إطاراتها.

بين قصص وحكايات أشهر سائق و أول سائق في الخط الممتد من المفاليس الى الاحكوم ـــ المصلى ـــ بينما يتأمل الشيخ لحظات اختفاء الشمس خلف الجبال المرتفعة بينما الساعة تتجاوز الخامسة ...
لكن أشعة الشمس المتسللة من خلف الجبال تظهر خيوطا بيضاء ممزوجة باللون البنفسجي المتعدد الألوان بين السحب ... بمنظرها السحري الذي لم يشاهده منذ سنوات ... إنها أوتار متناغمة ... تصلح للعزف ... تعطيه أجمل نغم ... من إبداع الخالق....
..... تستمر السيارة في السير غربا مقتربة من وادي ذي العرش ... تلامس ... الوادي ليلا فيزداد سكونا ... ليستمتع بريحه الموز .. المنجو ... الذرة ... وبقوليات الوادي بينما كانت الجبال المحيطة بالطريق ... تزيد صوت السيارة ارتفاعا كلما ضاقت الطريق... لتعطي نغما يزيد من سحر المكان ... بوادي ذي العرش ... أضواء القمر .. والأرض الطينية الحبلى بخيراتها .. أصوات الماء بقطراته المتطايرة من تحت الإطارات ... يا لله كل ذلك يزيد من سحر المكان....ويدغدغ مشاعر وأحاسيس لم يعرفها من قبل مطلقا.
ليعود إلى قريته .... ليعود إليها حاملا بيده مشعل النور لأبناء قريته .. قصصاً وحكايات عما شاهده في العالم .. عن مدن رآها .. وقطارات ركبها .. وطائرات حلقت في الأجواء .. عن سفن في البحار .. وليالي مدن منورة من صنع الإنسان وكله بالعلم الذي يفتقد إليه الجميع وطنه.. ليشرع في بناء الزاوية العلوية .. وكتاب لأبناء قريته الصغيرة .. أو مدرسة .. تنير لأبناء قريته الصغيرة الطريق.
يتوافد الطلاب عليه من كل صوب وحدب .. ويعلن يوم الافتتاح.. يقيم حفلاً .. الطالب/ مقبل معمر ينوب عن زملائه الطلاب بالحديث أمام الجمهور .. يشيد بمعلمه وقدوته .. الذي اختار طريق النور في خدمتهم.
يشاع خبر الافتتاح .. يتوافد عطشى العلم عليه من كل مكان .. يصل خبره وخبر مدرسته إلى عامل الإمام في التربة الذي يبرق لأمير اللواء التعزي أحمد ولي العهد .. يطلبه في الدخول إلى تعز الشيخ المعلم .. يصل تعز وسط ظلام دامس .. ظلام العلم .. ظلام الكهرباء .. وظلام الحق والحقيقة ليكون الأمير أحمد مرحباً وسهلاً به مبتسماً ليضمه إلى ثناياه .. وحاشيته.

أحمد يا جناه .. صائد مخادع لفرائسه .. ينصب شباكه فيرمي بشباكه لأول مرة .. "يعين الشيخ الحكيمي مرشدا عاماً للواء التعزي براتب ستون ريال شهرياً" ستون ريال فرنصي شهرياً مقابل السكوت .. والخضوع .. وعدم مقاومة الظلم .. أو إبقاء شعبه مقفل العينين ..

الحكيمي المقاوم للظلم .. داعية التنوير .. محب الوطن العاشق .. يجد إلى جواره في تعز الأستاذ/أحمد محمد نعمان والأستاذ/محمد محمود الزبيري ، يتبادلوا الأفكار التنويرية مع زيد الموشكي، وعبد الله عبد الإله الأغبري وآخرون وسط ظلام الليل، وعلى سراج (الكوروسين) هبة الإمام إلى شعبه العظيم صاحب الأمجاد والتاريخ المنير، يقترح عليهم تنظيم المعارضة فالجهود الفردية لا تكفي ، والدعوة إلى الإصلاح فردياً لا تقبل واليمن بحاجة لأن يشرق عليها الفجر ، يزايد عدد النخبة المثقفة من أبناء اليمن حوله .. يدافع "الحكيمي" ويدافع عن موقفه بضرورة تشكيل معارضة منظمة تستطيع أن تضغط على الإمام في اتجاه التغيير يعلن في جلساته أن لا خلافات له.. ولا عداوة مع أحد "وكل ما في الأمر هو .. وجود العدل .. وتغيير الوضع الراهن في اليمن ، وتأمين المواطنين وإصلاح أحوالهم ، وأهالي اليمن بما فيهم ... جلالة الإمام كلهم يعدون أقاربي أحب لهم الخير والهناء والسعادة والرخاء وعلى وجه العموم فليس بيننا إلا حب الخير لليمانيين واليمن الذي هو وطن الجميع".
تلك كانت مطالب الشيخ المقاوم .. ووجه الخلاف بينه ورفاقه الأحرار والإمام. والذي علم بها الأمير أحمد ولي العهد .. فجن جنونه .. أحمد يا جناه .. يأمر بالقبض على الشيخ المقاوم .. سرى الخبر في مسامعه همسا .. فما كان من داعية التنوير إلا الرحيل إلى القرية .. مدعياً المرض .. وفوراً اتجه إلى عدن .. دون عودة، حبه لوطنه أخرجه منه ليلا ... "بعد أن كتب لي زيادة وطن أحبه، حباً مرتبطاً بإيماني". ... وفي اليوم الثالث لرحيله من قريته يصل عامل الإمام حسين الجنداري برفقة رتل من العكفه إلى منزله .. فلم يجدوا غير تلك المرأة الطاعنة بالسن .. من أنجبته قبل أربعون عاماً ونيف .. والذي يبدو عليها العمر أكبر من عمرها الحقيقي بسنوات، فالإمام لم يترك أحد يعيش .... لكن الشيخ المقاوم داعية التنوير كان قد وصل عدن عبر المفاليس .. لا أحد يلحق به.. فكانت أثاث البيت ومحتوياته بديلاً عنه .. استباح القاضي حسين الجنداري كل محتويات المنزل .. وهدمت الزاوية وترك المنزل خاوياً بعد أن سلم من الهدم بضغط من أهل القرية.

داعية التنوير يخاطب ولي العهد "أنت من عينني مرشداً عاماً للواء التعزي أنصح الناس، أنت أولى بنصيحتي .. الخ. ... الحكيمي صوتاً من أصوات الحق يعلو في أذن ووجه ولي العهد لا تنتهكوا أعراض الناس وتريدون منهم أن يكونوا معكم لا تظلموا.. لا تفسدوا في الأرض .. لا تحرموا الناس العلم .. وتجعلوهم وسط الظلام .. لا تحرمونهم من الطرقات والعلاج إن كنتم تريدونا معكم ..

الشيخ المقاوم يجد نفسه في عدن أكثر إصراراً على تنظيم حركة المعارضة.. اليمانية... يصل إليه النعمان والزبيري عن طريق كرش بعد أن كانوا قد احتجزوا من قبل الإنجليز بصحبة نعمان عبده علي العبسي ذاك الموفد من كاردف إلى الأزهر، وكان يعمل حينها مترجماً مع الحاكم البريطاني في عدن بعد أن أنهى دراسته في الأزهر، والذي وفد إليهما بسيارة من سيارات الحكومة البريطانية إلى كرش لاصطحابهما. فكان وصولهما شداً لأزره.. ودافعاً نحو استكمال الهيكلة التنظيمية للصفوة اليمنية "معارضة الصفوة".
يشتط أحمد يا جناه غاضباً.. وتزداد عيناه جحوظاً، الحكيمي/ النعمان/ الزبيري، يلتقون معاً .. إنه الخط الأحمر الذي لا استقرار بعده . .. لكن الثعلب .. أحمد يا جناه يبحث عن وسيط لشق الصف الثلاثي.. ليكون الحكيمي وسيطاً معاكسا بين ولى العهد والنعمان والزبيري ، ويعودون إلى تعز ... ويهدأ الحال قليلاً .. فما لبث ثعلب الحكم إلا أن يجوع ثانيتاً.... ليعود النعمان ، والزبيري إلى عدن .. ترفض الحكومة الاستعمارية منح حزب الأحرار تصريحا .. لتكون الجمعية اليمانية الكبرى بديلاً عنه .. يتحقق الحلم لدى الشيخ المقاوم بتشكيل معارضة منظمة يتنفس الصعداء شامخ الرأس ناضراً نحو الغد.... الآن يوجد عطاء منظما، وضمان لاستمراري هذا العطاء.. الآن لا خوف إما أن يصلح الحال أو أن بقاء الحال من المحال..
لم يكن يوجد أي خيار آخر غير المعارضة المنظمة بالرغم معارضة الاستعمار لتشكيل حزب الأحرار لكن اليأس لم يسيطر عليهم ، وإنما أعلنوا عن تشكيل الجمعية اليمانية الكبرى في بداية العام 1946م.... وكذا الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها والتي أخرت الشيخ المقاوم عن العودة إلى كاردف لمواصلة رسالته، لمدة تزيد عن خمس سنوات، زار خلالها مكة للحج ثلاثة مواسم متتالية، قابل عدد من رؤساء الجاليات العربية والإسلامية في الحج ... من الشام ... وفلسطين .... ومصر ... كما التقى الشيخ حسن البناء، والملك عبد العزيز وولي عهدة الأمير سعود، والأمير فيصل، كما قابل شيخ الإسلام الشيخ محمد بن ياسين الفاداني وتدبج معه، أي أجاز كل منهما الأخر، وروى للشيخ الفاداني، والملقب بمسند العصر، عن شيخه أحمد مصطفى العلوي، وعن شيخه قاسم سرور، والعلامة الشيخ عثمان الأزهري، جاء ذلك على لسان الشيخ الفاداني (المتوفى في 1410هـ) في مخطوطة المسمي (الكواكب الدراري) في معرض حديثه عن الشيخ الحكيمي( ص 235 مراسلات بين المؤلف والدكتور يحي الغوثاني) .
ــــ وفي الثاني عشر من مايو 1946م استقل السفينة من ميناء عدن متوجهاً إلى كاردف يرافقه نعمان العبسي، ونعمان القباطي من أعضاء بعثة الأزهر، ليصل إليها في 5 يونيو 1946م.

الشيخ الداعية يشرع فور وصوله إلى كرديف في بناء مسجد نور الإسلام، ويتسلم رئاسة الجمعية الإسلامية العلوية.. الإطار التنظيمي لمسلمي بريطانيا وكارديف التي من خلالها انبثق الحكيمي في تنظيم شؤون الجالية الإسلامية باشتراك أسبوعي للمنتسبين قدره ستة بنسات فقط. وبتلك البنسات استطاع الحكيمي أن يدير الجالية الإسلامية بصورة تنظيمية فائقة كأول شخص يحاول تنظيم الجالية الإسلامية في بريطانيا وأوروبا.
الحكيمي زعيماً.. مناضلاً صلباً تواقاً للحرية يصل إلى كاردف في 22 يونيو 1946م, للمرة الثانية، وفي سبتمبر من نفس العام يوجه رسالة لأمين عام جامعة الدول العربية في أقل من عام على تأسيسها.. يعرض فيها قضية اليمن كسابقة لتدويل قضية الشعب اليمني ونقلها إلى المحافل الدولية.. ثم يوجه رسالة ثانية وثالثة .. والرابعة .....الخ, يعرض فيها معاناة شعبه تحت حكم وظلم الإمامة. الحكيمي.. الزعيم السياسي.. يلتقي عبد الرحمن عزام في لندن باجتماع رسمي يوم 14سبتمبر 1946م لشرح قضية اليمن لعبد الرحمن عزام، ومعاناة شعبه وأحراره في السجون.

الشيخ داعية لتسامح الأديان .. يعكف في العام 48/49م على دراسة الكتاب المقدس وكتاب العهد القديم، والعهد الجديد للاستعانة بذلك في محاورته للكنيسة البروتستانتية. ويستفيد في تأليف كتابه "دين الله واحد" والأسئلة والأجوبة بين المسيحية والإسلام. مستعينا بذلك وبعدد من وبكتب عدة لرواد الفكر الأوروبي ..... داعية التسامح.. حاور الكنيسة البروتستنتية في سوث انجلترا عام 1949م، فكان للصحافة الإنجليزية أن تتبعت أخبار هذا الحوار .. ثم تابعت أخبار كتابه عن ذلك الحوار "الأسئلة والأجوبة بين المسيحية والإسلام" لأنه أذهل أهل الدين بمعارفه عن دينهم، ودينه ... الحكيمي المحاور .. في ليلة 3 أغسطس 1949م استدعي لكنيسة (برث) من قبل جمعية الرجال المسيحيين، فكان محاوراً ناجحاً سلب عقول وفكر محاوريه من قساوسة ورهبان بإجابته على 45 سؤالاً أثمرت كتاباً مكوناً من 113 صفحة، وكتاباً آخر عمد إلى تأليف عن واحديه الأديان أسماه "دين الله واحد".

الحكيمي رائد التنوير سبق عصره في زمن الأمية والجهل يرى في عملية التنوير وبث الوعي وتصحيح مدارك الجماهير أمراً مهماً في تحقيق التغيير وتفادي فشل ثورة 1948م .. يهرب من ذلك الفشل الى الأمام كما هي عادته دوما ... ويسجل الهروب رقم.... ويرى في الصحافة سبيلاً في التوعية .. وفي فضح زيف الحاكم المستبد أحمد وما تدعيه من زيف.

ــ ففي 6 ديسمبر 1948م يظهر العدد الأول من أدائه في التنوير والحرية ومقاومة الظلم .. السلام أول صحيفة تنطق العربية في بريطانيا، وأوربا على الإطلاق، يؤسسها ويرأس تحريرها ويصدر منها 107 أعداد, حتى العام 1952م، معتبرا الصحافة أعظم وأنبل رسالة ومهنة على وجه الأرض. أما القس رئيس المحاورين له في كنيسة برث، فيرى فيها أعظم أعماله في أوربا وبريطانيا على الإطلاق، كونها أول صحيفة تصدر في أوروبا بالعربية.

**
الشيخ الوفي .. في 11 مايو 1950م يهزه الشوق والوفاء وحنين العودة إلى الجزائر .. يغادر كاردف مروراً إلى بلجيكا .. باريس مرسيليا .. ويلتقي بعدد من الجالية اليمنية هناك .. يحثهم بالتبرع للأحرار .. ويذكرهم بوطنهم الجريح .. يظل بين أفراد الجالية اليمنية عدة أيام بضيافتها ثم يتجه جواً إلى وهران .. ثم مستغانم .... فقراءة الفاتحة على قبر المعلم والمربي أحمد مصطفى العلوي .. ثم يتوجه إلى غيلزان .. وأسطيف .. وعنابة. زار بلاد القبائل الجزائرية .. وطاف بعدد من الزوايا العلوية .. لكن حنين الشوق الجزائر لم ينسه وطنه .. فكان لقائه بعدد من المهاجرين هناك طالباً منهم التبرع للأحرار والارتباط بالوطن والتواصل مع الداخل.
الشيخ بعد أن بادل الوفاء بالوفاء.. وعاد إلى كاردف بعد شهر من الغياب ليمارس مهامه. الشيخ المجاهد يزيد من الضغط على الإمام أحمد فيصبح الهاجس الذي لا يغيب عن البال .. رسائله المفتوحة عبر السلام للإمام أحمد ولجامعة الدول العربية والأمم المتحدة، ولجنة حقوق الإنسان، والرئيس الأمريكي ترومان، ونشره لفساد الحكم، وممارسات الظلم.. كلها أيقظت مضاجع الطغاة.. لتوجه ضده أشرس حملة من قبل الإمام أحمد.. جند صحيفة سبأ في عدن لمهاجمته بقسوة وصحيفة النصر .. بل استمال الإمام مساعدة حسن إسماعيل مفضل الشميري .. لإزكاء نار الفتنة .. يشتد الخلاف انطلاقاً من معارضة الشميري لموقف الحكيمي في مهاجمة الإمام والتي وصلت إلى حد تصام أتباع الطرفين .. وتدخل الأمن الإنجليزي لفظ المنازعات ... لقد كان معارضاً قوياً للحكيمي وأفكاره الثورية بالتنسيق مع ممثل الإمام في لندن حسن إبراهيم ولم تكن المعارضة تقف عند هذا الحد بل امتدت إلى ما هو أسوى ... القتل .. ويبد من بعض الوثائق أن حسن إسماعيل كان ضمن المكلفين بمهمة التخلص من الحكيمي. .. والذي استماله الإمام أحمد بعد فشل ثورة 1948م، وبعد أن زار مكة للحج .. وفي برقية للأمام أحمد من ممثله في لندن حسن إبراهيم تشير إلى أن حسن إسماعيل عازم بعد الحج إن شاء الله، ويلزمه تعيين أعضاء حوله ضد الرجل حسبما أفدتم".
الحكيمي يترفع عن كل هذا .. ويستمر في أداء رسالته حاملاً مشعل النور بيده .. متجهاً نحو الهدف الأكبر، الدفاع عن حق شعبه في الحياة ... والعزة والكرامة .. وفي سبيل ذلك يتحمل من قبل نائبه السابق وتلميذه أشد وأسوا الألفاظ ... لم يشتمني أحد من قبل إلا عندما .... دافعت عن حقوق الشعب.
في ذروة الخلاف وسخاء الدعم من الإمام أحمد لمن يعارض الشيخ، تجري محاولة لاغتياله في بريطانيا لينتقل إلى رحمة الله مساعده في المركز الإسلامي حسن شير من الصومال بثلاث رصاصات أسكتت قلبه إلى الأبد في 15 مايو 1951م لكنها مثلت للشيخ الحكيمي ناقوس الخطر الذي كان مثابة الإشارة نحو مسلك الشر المتربص به، مع ازدياد المضايقات الإنجليزية له ... يقرر العودة إلى عدن وإصدار صحيفة السلام من عدن .. تعود المطبعة وأجهزتها إلى عدن. لكن الغالبية العظمى من اليمنيين إن لم يكونوا جميعاً يعملون في الميناء والبحر .. ومن هم أنصار حسن إسماعيل مفضل الشميري ومن يدينون بالولاء للإمام كثيرون منهم أيضا تحت إمرة حسن إسماعيل. أحدهم يدس مسدسان وسيف بين أدوات الطباعة .. لتصل إلى ميناء عدن.

**
الشيخ يحمل قضية وطنه ويعود عبر بلاد الشام فلسطين ولبنان وسوريا ومصر ثم السودان .. يشرح قضية وطن .. وهم أمة يحث اليمنيين على مقاومة الظلم، والثورة على الإمام ومساعدة الأحرار والتبرع لصالحهم .. ويشد من أزر الجميع ويدعوهم إلى الوحدة.
و في مصر يقابل الرئيس محمد نجيب الذي يهمس في أذنه لقد علمتنا كيف نثور على الظلم يا شيخ عبد الله.... يسلمه مذكرة تحمل عنوان "محنة الشعب اليمني"(10) يشرح فيها أوضاع اليمن وما يعانيه الشعب اليمني من ظلم حكم الإمامة. ويطلب المساعدة بالوقوف إلى جوار الشعب اليمني فيما ابتلاه الله.... يغادر مصر إلى السودان ليلتقي بالشيخ يحي الشرفي والأحرار في السودان .. ثم يتوجه إلى عدن .
**
الشيخ سجيناً في عدن لدى السلطان البريطانية ففي يناير 1953م يقتاد الحكيمي إلى السجن الاستعماري بتهمة تهريب السلاح، يلتف الأحرار حول زعيمهم يدفعون الكفالة المالية ريثما يصدر الحكم، يحاكم في عدن.. ويصدر حكم محكمة الشيخ عثمان درجة أولى بالحبس عام مع الأشغال ليكون في ضيافة الحكومة لمدة عام.. "ولا تنسى أن حياة الأحرار في خطر دائم اثبت وثبت الأهل" هذا خاطب لابنه عبد الرحمن وأحبهم إلى قلبه، في أول أيامه في السجن ... لكن أحرار اليمن يستأنفون الحكم بمحكمة كريتر ليخفف إلى عام ووقف الأشغال، يرفع أحرار اليمن الأمر إلى المحكمة العلياء في نيروبي بكينيا وتسقط التهمة عن الزعيم ... ليطلق سراحه في 17 يوليو 1953م بريئاً مما وجه إليه من تهمة، لكن داء ... سم ... الخيانة كان قد دس له في طعام السجن، بعد أن أرسل شخصا مخصوصا لذلك الغرض من الحاكم الإسلامي إمام اليمن أحمد بن حميد الدين.
وفي السجن يشرع في تأليف كتاب دعوة الأحرار وينتهي منه، ثم يشرع في تأليف سيرته الذاتية... لكنه لم ينتهي من كتابتها فقد كان القدر أسرع.
إلا أن حب الناس له ونموذجه المشرف في مقاومة الظلم وطغيان الإمامة جعل الكل يلتفون حوله أثناء عمليات المحاكمة... مظاهرات صاخبة وتنديدات بالاستعمار والمحاكمة كانت تستمر في كل جلسة من بدايتها حتى نهايتها... ثم يتوج هذا الحب بانتخابه رئيساً للاتحاد اليمني في اكتوبر 1953 لكنه لم يسقط كلمة الحق في وجه الحاكم الظالم، فيوجه في 15 نوفمبر العام 1953م، رسالته الأخيرة للإمام أحمد ـــ بمطالب الأحرار ـــ ومع غروب شمس يوم 4 أغسطس 1954م يغيب عنا النور فلا نرى نوراً بعده .... حتى فجر ألـ 26 من شهر...........................

اخدم وطنك بصمت، آخر عبارة يهمس بها الحكيمي
في أذن ابنه عبد الرحمن
قبل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله























ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* لكن الطلب تزايد على السلع الحديثة والمتطلبات الضرورية لأبناء الحجرية من المستعمرة البريطانية عدن .. ولم يعد لدور الحمير والجمال جدوى في توصيل البضائع من المفاليس والوهط لكافة المناطق، فكان لزاما على البعض التفكير في ايجاد سبل أفضل لتوصيل المتطلبات للمناطق الأكثر بعدا لاسيما وأن لبعض ممن هاجر لمدن القرن الإفريقي بدأت عائداتهم تصل لمناطقهم.

يضاف اليه أن نفر قليل من أبناء الاحكوم المتواجدين في المستعمرة عدن امتلكوا سيارات صغيرة نوع " لند روفر، وهوستن، " وفي ذات الوقت وجد لديهم حب المغامرة، كان على رأسهم سفيان حيدر، وأحمد القدسي، من صبن قدس، ممن كانوا قد عملوا بسياراتهم على نفس الخط، ـ دار سعد، المفاليس ـ فكانوا كغيرهم ممن يتركون سياراتهم عند أخر نقطة تصل اليها السيارات من عدن، ثم يرتجلون بقية المسافة محملين بما اتو به من عدن على ظهورهم أو على الحمير والجمال.

وبما أن خط السير من المستعمرة كان يمر عبر منطقة صحراوية ( خبت الرجاع) وهي طريق غير معبدة بل شقت بفعل تكرار مرور السيارات من دار سعد إلى الوهط ثم تتجه السيارات غربا عبر مجرى السيول ( السائلة) لبضع كيلومترات الى المفاليس وهي نقطة جمركية أقامها الأتراك ومن ثم الامام كحدود فاصلة بين الشمال والجنوب، لتتوقف السيارات بعدها عن مواصلة السير لوجود حاجز صخري كبير الارتفاع وسط (السائلة) يصعب التعامل معه وفق امكانية المواطنيين أو حتى الدولة أن ذاك، بالإضافة لارتفاع جبلي وصخري من الجانبين لم يكن يسمح بمرور حتى لوسائل النقل التقليدية (الحمير، والجمال) مما فرض على المسافرين تحويل الطريق عبر مجموعة من المدرجات الزراعية التي تعلوها هضبة صخرية لكنها أقل وعورة (العذير) لم تكن بحاجة سوى لتعديل طفيف لتتمكن السيارات من السير عبرها.

تلك الهضبة ظلت ولفترة طويلة طريق سير للمسافرين إلى عدن من مناطق الحجرية المختلفة، وكذا طريق مرور الجمال والحمير، بهدف مواصلة السير من ـ المفاليس ـ لبقية عزل الحجرية الأعلى (الاعبوس، الاغابرة، الاعمور، الاحكوم) كان لابد من تسوية الطريق مع ارتفاع الصخرة الكبيرة مستحيلا، فقد فضل الراغبون في المغامرة تسوية بعض الاماكن التي هي بحاجة لذلك في الطريق المعروف بالعذير والاستعانة بالايدي العاملة التي قامت بتسوية الصخور الصغيرة بحيث تمكنت السيارات من المرور عبر (عقبة العذير) ثم تواصل السير غربا عبر الأراضي الزراعية منحدرة صوب مجرى السيول في كل من الأثاور، والاحكوم، حتى تصل إلى نهاية الأحكوم، وسوقها الرئيس المصلى.

وينقسم سوق المصلى الى قسمين : المصلى العليا وتضم عدد من المحلات التجارية، وموقف مرتفع عن مجرى السيول، تقف فيه السيارات ففي فترة الانتظار. والمصلى السفلى، تبدأ فيها المحلات التجارية من مشارف المصلى على مشارف مجرى السيول نحو الداخل.

كان سفيان حيدر الحكيمي أول من وصل بسيارته الى مشارف المصلي، والذي لم يتمكن من الوصول الى السوق الرسمي لوجود حاجز مائي كبير في مجرى السيول معروف باسم بركة المضياق.

وصول السيارة بقيادة السائق (سفيان حيدر) جعل كل من في السوق والقرى المجاورة له، والدارسين عن الفقية يتجهون صوب هذا المخلوق العجيب والذي يرونه لأول مرة في سوقهم الساعة الحادية عشرة ظهرا. شبهها البعض في صوتها بالثور والبعض من النسوة رأين فيها الجوع والعطش فحاولت بعضهن تقديم ما يروى عطشها ويشبعها من الجوع، والبعض رأى في سخونته هيكلها أنها بحاجة لأن تستظل وترتاح من العناء، كل هذا حاصر قائد السيارة (سفيان حيدر) وهو يرد بزهو وانشراح كونه الوحيد الذي يعرف السر العجيب، لكن ما لبث أن عاد نحو الشرق ـ المفاليس ـ مع الساعة الثانية والنصف ظهرا، مسجلا الرحلة الاولي لأول وسيلة مواصلات عصرية تصل الى سوق المصلي، وتخدم كل مناطق الحجرية بعد ذلك، وصلت خدماتها إلى منطقة الضباب قرب تعز، عبر قوافل من الجمار والحمير، بل وأمدت تعز بالبضائع، في فترة من خمسينيات القرن العشرين.



الأحد، 27 يونيو 2010



تحديات كبيرة تواجه اليمنيين
ـ تراكم دون حلول ـ
د/علي الفقيه



تحديات عديدة وكثيرة تواجه اليمن واليمنيين تراكمت منذ عقود، أو بالأحرى تم ترحيلها حتى أصبحت تشكل حملا كبيرا. من أبرز التحديات المؤلمة والحادة تتكرر كل عام تتمثل في:
 1- ندرة المياه.
2- الفقر.
3- البطالة.
4- عدم توافر فرص عمل جديدة.
5- تعثر مسار التنمية.
6- اختلال التعليم الأساسي والجامعي.
7- تدهور العناية الصحية.
8- تنامي ممارسة الفساد سياسيا وماليا.
9- زيادة الفجوة في الطاقة الكهربائية.
10- تصاعد نسبة الأمية.. أهم التحديات الثلاثة:
التحدي الأول: ندرة المياه:
حيث أكدت دراسات وتقارير عديدة أن العجز المائي السنوي في اليمن يفوق الواحد مليار متر مكعب، كما حذرت من مغبة الاستمرار في استنزاف المياه وعدم إصلاح الاختلالات الحالية في توزيع المياه في الاستخدامات المختلفة. وهناك حوالي 90% من المياه تستخدم في الزراعة منها حوالي 30% تستخدم لري القات الأمر الذي يؤدي إلى المزيد من استنزاف المياه الجوفية، ويرجع سبب العجز المائي إلى عدم كفاية مياه الأمطار لتغذية المخزون المائي في الكثير من المناطق إلى قرابة (8) أمتار سنويا، يضاف إلى ذلك النمو المتزايد في استهلاك المياه نتيجة لارتفاع النمو السكاني والعمراني، البلاد تعاني من عجز في الموارد المائية يقابله ارتفاع في معدل النمو السكاني حيث أن نصيب الفرد اليمني من المياه لا يزيد عن 120_150 مترا مكعبا سنويا مقارنة بحوالي (1250) مترا مكعبا في معظم دول العالم، ونتيجة للإفراط في استنزاف المياه واستهلاكها في استخدامات مختلفة فإن مستوى معظم الأحواض المائية أخذ في الانخفاض بشكل مستمر فيما تصل معدلات السحب للمياه في بعض المناطق إلى أضعاف معدلات التغذية المتجددة. معلومات أخرى أشارت إلى أن إجمالي استخدامات المياه تقدر ب(3400) مليون متر مكعب تستحوذ الزراعة على نسبة 90% من المياه المتاحة خارج نطاق وزارة المياه، ونسبة 80% الصالحة يتم استخدامها في زراعة القات، أما المياه المستخدمة للشرب المقدرة ب(232) مليون متر مكعب، والمياه المستخدمة للصناعة وغيرها بحدود ( 68) مليون مكعب. أما الفجوة المائية فإنها تقدر ب(900) مليون متر مكعب يتم الحصول عليها عن طريق استنزاف المخزون المائي للأحواض واستنزاف المياه الجوفية بنسبة تصل إلى 400%.
التحدي الثاني: الفقر:
الفقر هو نقص في المال المطلوب لتغطية نفقات الغذاء والأمور الأساسية لمتطلبات الحياة كالملبس والمسكن، التعليم، الصحة، والنقل. والحد الأدنى للفقر يمثل الحد الأدنى من الإنفاق المطلوب لتأمين الغذاء فقط، ويطلق عليه في بعض الأدبيات [الفقر المدقع] في حين تسميه بعض المنظمات الدولية [خط فقر الغذاء] أما الخط الأعلى للفقر فإن البعض يسميه [خط الفقر المطلق] ويشمل الإنفاق المطلوب لسد حاجات الأسرة الأساسية من غذاء ولباس، مسكن، تعليم، صحة، ونقل باعتبارها حاجات لا يمكن الاستغناء عنها وغير قابلة للاستبدال والاختزال. أما المحددات الهيكلية للفقر تتمثل في:
1- ندرة الموارد الطبيعية_ شحتها التي تؤدي إلى التأثير على مستوى النمو الاقتصادي.
2- الاختلالات الهيكلية تؤدي إلى اختلال التوازن بين القطاعات الاقتصادية لصالح قطاع الزراعة التقليدية.
محددات أخرى للفقر تكمن في :
1- الأجور أي انخفاض متوسط الأجر الحقيقي نتيجة لارتفاع معدل التضخم.
2- البطالة_ تزايد عدد الداخلين إلى سوق العمل ونمو أقل في فرص العمل.
3- الإنفاق على السلع الأساسية الغذائية ورفع الدعم عن السلع الأساسية وزيادة أسعارها، وكذلك زيادة أسعار الخدمات الأمر الذي زاد الأعباء على الفقراء.
كشفت الفترة ما بين 1996-2000م عن مؤشرات سلبية حيث شهدت تنفيذ عدة جرع سعرية فانخفض معدل النمو خلال هذه السنوات من 5% إلى 4%. في عام 2003م وصل معدل النمو الاقتصادي إلى 2.9%، أما في نهاية نفس العام حصل تراجع إلى 1.7%، وخلال الفترة المشار إليها زادت الأوضاع المعيشية أكثر سوءا. غلاء المعيشة وارتفاع معدل الفقر بين الغالبية العظمى من أبناء اليمن وصل إلى أكثر من 68% بينهم قرابة النصف تحت خط الفقر المدقع ودخل الأسرة انخفض إلى مستويات متدنية. وما سمي بالإصلاحات الاقتصادية تحولت إلى عائق وبسببها زادت معاناة الناس المعيشية فزادت نسبة من هم في خط الفقر إلى أرقام خيالية. نهاية عام 2007م تحدث تقرير مشترك للحكومة والبنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، هذا التقرير حمل عنوان"تقييم الفقر في اليمن للعام 2007م" ذكر أن مستوى تناقص الفقر في اليمن ظل متواضعا إذا ما قورن بأهداف التنمية للألفية التي تبنتها الحكومة اليمنية والمتمثل في تخفيض عدد الفقراء إلى النصف، لكن التقرير أشار إلى أن عدد الفقراء قد ظل ثابتا عند ما يقارب (7) ملايين نسمة منذ سبع سنوات تقريبا. وشدد على أن اليمن أصبحت الأكثر فقرا بين دول المجموعة العربية بعد أن كانت تدعى العربية السعيدة أرض الازدهار والسعادة، واعتبر التقرير سوء التغذية لدى الأطفال من أكبر المشكلات في اليمن حيث يعاني ما يقارب ثلث الأطفال بين سن الثانية والخامسة من التقزم الشديد. في دراسة رسمية نشرت في منتصف عام 2007م توقعت ارتفاع نسبة الفقر في اليمن إلى حوالي 65.8%، وبنسبة أعلى في الريف التي بلغت 68.8% وذلك في حال تعرض السكان لصدمات طبيعية واقتصادية واجتماعية، ووقوع أحد تلك العوامل سوف يؤدي إلى انخفاض إنفاق الفرد على 10% حيث يقع ثلثا السكان تحت خط الفقر، والفقر في اليمن يأخذ طابعا ريفيا خاصة وأن المجتمع اليمني مازال ريفيا إلى حد كبير رغم نمو ظاهرة التحضر حيث يحتضن الريف حوالي 38% من الفقراء و78% من الذين يعانون من فقر الغذاء. يغطي الريف ما يقارب ثلاثة أرباع السكان وترتفع نسبة الفقراء إلى 45% بين سكان الريف مقابل 30.8% من السكان الحضر. توسع الفقر واشتداد حدته في الريف مقارنة بالحضر حيث بلغت نسبة الإنفاق على الغذاء في الحضر نحو 54% بينما ارتفع في الريف إلى 67% المر الذي يعكس انخفاض الدخل في الريف من ناحية وتدنيا أشد لما ينفق على الاحتياجات غير الغذائية من ناحية أخرى.
ويوجد مليون عائل وحيد لأسرته يواجههم (6) ملايين معال بينما يوجد حوالي (200) ألف أسرة لا يوجد فيها عضو يمارس عملا منتجا أي أن هناك حوالي مليون فرد يعانون من الفقر المزمن. والفقر في اليمن يتوزع بصورة غير متساوية بين الريف والحضر ويتفاوت تفاوتا واضحا بين محافظات اليمن. الأطفال يمثلون 53% من فقراء اليمن ويعاني 52% من الأطفال من سوء التغذية المزمن في حين يصل معدل وفيات الأطفال الرضع إلى (75) لكل (1000) مولود حي و(102) ممن هم دون الخامسة.. بداية عام 2008م أعلن برنامج الغذاء العالمي في اليمن أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية زاد عدد الذين يعيشون دون خط الفقر المحددة بدولارين يوميا الأمر الذي سوف يعيق تحقيق أهداف التنمية للألفية، وشهدت الفترة الماضية تحول نحو 6% من اليمنيين إلى ما دون خط الفقر بسبب الجفاف والارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية أوجد ثغرة كبيرة في موازنة البرنامج الخاص باليمن تصل إلى (28) مليون دولار في مقابل الثغرة الكبيرة في موازنته العامة التي بلغت (756) مليونا. برنامج الغذاء العالمي حدد (30) بلدا بينها اليمن التي تعتبر الأكثر تأثرا بالارتفاع الذي تشهده أسعار الغذاء العالمية، وقدر عدد اليمنيين الذين يعيشون بأقل من دولار واحد يوميا ب15.7% و45.2% بأقل من دولارين، وارتفاع أسعار المواد الغذائية أثر بشكل سلبي وكبير على مستويات سوء التغذية التي يعاني منها 40% من سكان البلاد.
الحكومة بسلامتها توقعت تراجع معدلات الفقر على مستوى اليمن وانخفاض نسبة الفقر الكلي من 33.8% عام 2009م إلى 32.8% عام 2010م، ونسبة الفقر في الحضر سوف تنخفض من 19.9% في عام 2009م، كما ستنخفض نسبة الفقر في الريف من 38.5% إلى 37% خلال الفترة نفسها.. الحكومة تعتقد أنها قد حققت انجازا كبيرا في الوقت الذي يعتبره المختصون أن نسبة 1% انخفاضا لا يعد انجازا يذكر بحق شعب يعاني من الفقر قرابة 69% من أبناء اليمن البالغ عدده (24) مليون والحبل على الجرار.
التحدي الثالث: البطالة:
والبطالة في اليمن ترتفع وتتزايد عام بعد آخر نتيجة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تبعتها السلطة بإجراءاتها الغير مدروسة، وما سمي حينها برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي كان من نتائجه خصخصة مؤسسات القطاع العام حيث نتج عن ذلك حرمان الآلاف من الناس الذين كانوا يعملون في تلك المؤسسات، وتحولوا إلى عاطلين عن العمل وفقراء مع عائلاتهم وأولادهم ليضافوا إلى ملايين الفقراء.
إجراءات الخصخصة تمت بطرق وأساليب بعيدة عن مفاهيم التخصيص المتمثل في البيع الكامل، الجزئي، أو الإدارة. ما تم لدينا هو الاستيلاء وبيع مؤسسات القطاع العام بثمن بخس، وكانت المحصل عدم قدرة الاقتصاد على توليد فرص عمل جديدة، ومواجهة عدد الداخلين الجدد إلى سوق العمل حيث أن نمو عرض القوى العاملة حوالي 4.3% من هنا فإن معدلات البطالة ترتفع، والحكومة قدرتها بنسبة 16% من إجمالي القوى العاملة، أما التقديرات الغير رسمية أشارت إلى أن نسبتها 35%، أما المؤشرات على الواقع فتقدر بحوالي 45%. البطالة تزداد باستمرار نتيجة لعوامل كثيرة أهمها الفساد، التراجع الاقتصادي وتنامي الفقر الأمر الذي نتج عن ذلك أثارا مدمرة للمجتمع وقيمه، وانقسام طبقي مناطقي دمر ما تبقى من قيم ايجابية توارثت عبر عقود. في اليمن نمو سكاني كبير معدله 3.7% أي هناك أعداد جديدة من قوة العمل تدخل إلى سوق العمل خاصة من الشباب ويضاف لهم مخرجات التعليم الجامعي والمعاهد والمتسربين من التعليم.
في دراسة للمركز اليمني للدراسات الاجتماعية وبحوث العمل كشفت عن معطيات وبيانات رسمية تؤكد ارتفاع معدلات البطالة واتساع نطاقها الجغرافي والاجتماعي في اليمن، والتحذير من انعكاساتها السلبية المباشرة وغير المباشرة على المجتمع. وطبقا لتقارير رسمية فإن معدلات البطالة تتزايد عاما بعد عام حيث بلغت عام 2006م حوالي 16.3% في الحضر 18.8% مقابل 14.7% في المناطق الريفية. تقرير آخر حكومي حذر من مخاطر البطالة تتمثل في خسائر يتكبدها الاقتصاد جراء البطالة المتفشية بلغت تقريبا (458) مليار ريال، (2.3) مليار دولار عام 2005م مقابل (427) مليار ريال (2.150) مليار دولار عام 2004م. وزارة التخطيط أكدت أن البطالة مشكلة تواجه عمليات التنمية الاقتصادية بخسائر اقتصادية كبيرة للبلد تتمثل في قيمة الناتج المحلي الذي كان يتعين أن ينتجه العاطلون في حالة استغلال طاقاتهم الإنتاجية إضافة إلى الآثار الاجتماعية التي لا تقل خطورة حيث ثبت أن ارتفاع البطالة وما يرافقها من حرمان ومعاناة تسبب للفرد اضطرابات نفسية وقيمية تقود إلى الانحراف والجريمة والعنف والتطرف والإرهاب، نظرا للزيادة المطردة في عدد الشباب الخريجين الذين لا تتوفر للكثير منهم فرص عمل جديدة، حيث تصل نسبة البطالة بين الشباب إلى 18% وهذا الرقم مرشح للزيادة حيث تصل أعداد الخريجين إلى حوالي (188) ألف شاب وشابة، ولا تستطيع المؤسسات الاقتصادية توفير فرص عمل كافية إلا بحدود (16) ألف وظيفة وبالتالي فإن ظاهرة البطالة تتسع وتتعاظم وتتجه نحو الزيادة في كل عام. اليمن تحتاج إلى توفير (180) ألف فرصة عمل سنويا وهذا أمر يصعب تحقيقه في ظل وجود بطء شديد في النمو الاقتصادي وعجز كبير في توفير الفرص الوظيفية لاستيعاب العمالة الجديدة.
تقرير تقييم الفقر أعده البنك الدولي أشار إلى أن نتائج سوق العمل مدعاة للقلق، لأن نسبة الأيدي العاملة سنويا ترتفع بنسبة 3.3% أو بحوالي (200) ألف فيما الطلب على الأيدي العاملة يقدر ب(50) ألف فقط من إجمالي الفرص الممكنة التي توفرها القطاعات الاقتصادية بشقيها العام والخاص، فيما ثلاثة أرباع الداخلين إلى سوق العمل يضافوا إلى العاطلين وهم بالطوابير. تزايد البطالة يعزى إلى ضعف قاعدة النشاط الاقتصادي لأنه غير قادر على توليد فرص عمل كافية إذ أنه يتسم بكونه اقتصادا ريعيا، وعلى الرغم من أن النفط يحتل الصدارة لكنه في المقابل لا يستخدم سوى (21) ألف فقط من الأيدي العاملة، وبالتالي فهو قطاع لا يعول عليه أن يخلق فرص عمل كافية إلى الحد الذي يمكن أن يمتص النمو المتسارع في عدد الأيدي العاملة، علاوة على ذلك فإن القطاعات غير النفطية التي يراهن عليها في تحريك عجلة الاقتصاد، ليس بمقدورها أن ترفع من وتيرة الطلب على العمالة لاسيما في مساهمتها برفع الصادرات. لقد ساهمت سياسة الإصلاحات الاقتصادية والمالية في تفاقم معدل البطالة، حيث بموجب تلك السياسة قلصت الحكومة من فرص العمل في القطاع الحكومي والمختلط بنسبة كبيرة بغية الحد من نسبة العجز في الموازنة العامة، والقطاع الخاص ضعيف ولم يستطع تعويض الدور الذي كانت تلعبه الحكومة في عملية التشغيل. ويزداد الأمر خطورة في أن مخرجات التعليم لا تلبي حاجة السوق من جهة وطبيعة النشاط الاقتصادي محدود التأثير على استيعاب المهارات التعليمية من جهة أخرى، ومخرجات التعليم غير ملائمة أو ذات صلة بالتحولات المهنية التي يتطلبها اقتصاد اليوم، حيث أن نسبة البطالة في صفوف المعلمين تبلغ 44% في صفوف ذوي التعليم المتوسط و54% في صفوف خريجي الجامعات، وهو ما يعني أن المخرجات التعليمية لا تلعب دورا فعالا في تأمين فرص عمل للخريجين طالما أن الاقتصاد ذاته يعاني من اختلالات بنيوية مزمنة، أي أن قضية كفاية المهارات مسألة ضئيلة وانتقالية في الواقع بل ومحدودة التأثير في الأداء العام للاقتصاد على الرغم من أنها يمكن أن تؤثر على القطاعات التي تتقدم إليها طلبات الباحثين عن العمل. ارتفاع الطلب على الأيدي العاملة التي تتزايد بوتيرة أعلى مما يطرح تحديا كبيرا على اليمن نظرا للانعكاسات الخطيرة للبطالة على الأوضاع الاجتماعية التي زادت من أعداد الفقراء.. البطالة في اليمن ليست من النوع الدوري الذي يحصل في البلدان المتقدمة، بل هي خلل بنيوي في الاقتصاد الذي يعاني من ضعف قاعدته الإنتاجية، ومن محدودية قدراته على توليد فرص عمل كافية تمتص الطلب المتزايد على الشغل.
وفي دراسة ميدانية تم نشرها بداية 2010م أكدت أن سوق العمل في اليمن يشهد صعوبات وتحديات قائمة بين جانبي العرض والطلب بسبب ارتفاع النمو السكاني والذي يقابله ارتفاع في نسبة القوى العاملة حيث من المتوقع أن ترتفع إلى أكثر من (9) ملايين عام 2025م مقارنة ب(4) ملايين و(244) ألف عامل خلال عام 2007م. نسبة حجم البطالة في اليمن أصبحت من أعلى المعدلات في العالم والتي تؤثر نتائجها بصورة سلبية على الاقتصاد والتنمية في اليمن، وعدد العاملين الجدد الداخلين لسوق العمل سنويا يقدر بنحو (200) ألف شخص مما يتطلب توفير (200) ألف فرصة عمل سنويا علاوة على (24) ألف وظيفة سنويا لخفض مخزون البطالة التراكمية من سنوات سابقة. ارتفاع نسبة البطالة ونمو حجم القوى العاملة إلى عدم توافق مخرجات التعليم والتدريب مع احتياجات سوق العمل، واستمرار نمو مخرجات التعليم الجامعي الحكومي في تخصصات تفوق حاجة سوق العمل مع عدم توافق مؤهلات الخريجين العاملين مع متطلبات وظائفهم.



هـوامـش:
1- السياسية العدد (20342) 15/5/2008م.
2- الوحدة العدد (884) 11/6/2008م.
3- السياسية العدد (20208) 5/12/2007م.
4- الوحدة العدد (839) 4/7/2007م.
5- الوحدة العدد (878) 30/4/2008م.
6- السياسية العدد (20332) 4/5/2008م.
7- السياسية العدد (20836) 9/1/2010م.
8- الصحوة العدد (1206) 31/2/2009م.
9- السياسية العدد (20324) 24/4/2008م.
10- السياسية العدد (20391) 12/7/2008م.
11- الاقتصاد اليوم العدد (6) 30/8/2008م.
12- السياسية العدد (20836) 9/1/2008م.








السبت، 19 يونيو 2010


الطــب الشعبــي

حقيقــة العـلاج .... وثقـافة المـرض






د/عبد اللـــــه مُعـمـــــــــر*
أولا
توجد العديد من الأمراض التي لا يتعامل فيها الطبيب مع عضو محدد في جسم الإنسان، بل يتم التعامل فيها مع مجموعة من المكونات اللاعضوية كالقيم، والعادات، والتقاليد، والثقافة الموروثة، والمكتسبة، وكذا المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية المؤثرة في حياة الفرد والمجتمع، والتي تنعكس بصورة سلبية على بعض الأفراد الذين لا يستطيعون التكيف مع محيطهم الاجتماعي، مما ينجم عنه حالة من الصراع القيمي بين ما هو موروث وما هو مكتسب من جهة أولى، وبين ما يرغب الفرد بأن يكون عليه من جهة أخرى. وهذا الصراع يؤثر على موقف الفرد من المرض وانتشاره وكذا العلاج وسرعة اختياره.
وبما أن الأمر يتعلق بمجموعة من صراعات القيم في ثقافة الفرد والمجتمع وكذا في حالة اللاتجانس الثقافي والاجتماعي والاقتصادي التي تعاني منها المجتمعات النامية ــ واليمن منها ـ فالمريض وجماعته المرجعية يكونون أمام خيارات علاجية توجهها قيمهم وثقافتهم، خاصة وان شكل العلاقة الأسرية تمكِّن كبير الأسرة من السيطرة وفرض آرائه وأفكاره على بقية أفراد الأسرة، ويكرس النظام التربوي والاجتماعي الثقة في آرائهم ومقترحاتهم، لأنَّ الفرد يكتسب اتجاهاته وأنماط تفكيره باحتكاكه بأفراد مجتمعة، وينقل عنهم اتجاهاتهم الأساسية عن طريق التطبيع الاجتماعي. لذلك إما أن يكون الطبُّ الحديث هو المختار، أو أنّ أحد الأساليب العلاجية التقليدية هو الملاذ، ويمكننا إدراك ذلك بجلاء إذا ما بحثنا في إطار المفاهيم الشعبية للمرض، خاصة وأنّ رؤية الثقافة الشعبية للمرض وأسبابه تختلف عن الرؤية الطبية الحديثة، ومثل هذه المواقف تؤدى إلى اضطراب الحالة النفسية للمرضى مما يدفعهم إلى التماس الخلاص من أي سبيل، فإذا افتقدوا المعرفة الصحيحة كان سبيلهم الوحيد هو اللجوء إلى العلاج والمعالجين التقليديين والشعبيين، وإنْ توفر قدر من المعرفة الطبية لمسببات المرض اتجهوا إلى الطب الحديث. وهو ما يُحدثُ تنافرا واضحا بين المنظورين. فالثقافة بكافة مضامينها ومفاهيمها تطرح تفسيرات تختلف اختلافا جزئيا أو كليا عن التفسير الطبي الحديث للمرض بإعادته إلى القوى الغيبية أو الممارسات المكتسبة من الخبرة، ويرجع ذلك إلى أن التفسيرات الشعبية تتفق إلى حدِّ كبير مع تصورات الأفراد المسبقة لمسببات المرض مما يعني أن ذلك تحصيل حاصلٍ لأفكار مسبقة وتصورات ذهنية موجودة أصلا. نظرا لسيطرة مفهوم قدرة العلاج الشعبي والممارس لهذا النوع من العلاج على التعامل مع القوى الغيبية والسيطرة عليها. ولاسيما ان التراث الشعبي يزخر بهذه الأساليب. مما يدل على رفض لبعض أساليب العلاج الطبي الحديث، كون النظرة الشعبية لمفهوم المرض والعلاج تكشف عن العديد من التفسيرات التي تزخر بها المجتمعات. فمنها ما ترجع أسباب المرض إلى عوامل مادية وأخرى غيبية، وتنظر الثقافة في بعض الجماعات المحلية إلى المرض على أنّه انتقام إلهي و بالتالي يتسم العلاج بالطابع السحري. مما يعني النظر إلى العلاج الحديث باعتباره غير مفيد و هذه التفسيرات تنعكس على سلوك أفراد المجتمع الذي تسود فيه مثل هذه المعتقدات عند تلمسهم الشفاء من المرض تلك المعتقدات التي اكتسبها الفرد من مجتمعه منذ طفولته عن طريق التنشئة الاجتماعية وقيم المجتمع أو الجماعة التي يعيش في ظلها الفرد وكذا الخبرة الشخصية، فالمعتقدات السائدة عن مرض معين هي التي تحدد السبيل التي سيسلكها الفرد الذي يصاب بالمرض للتخلص من مرضه. وهذا يتوقف على تأثير الخلفية الثقافية والحضارية التي نشأ فيها الأفراد، فضلا عن مؤثرات الأوضاع الطبقية والمكانة الاجتماعية لهم في المجتمع. الا اذا كان التعبير عن الألم عيبا في بعض الثقافات ونقصا في الشخصية. وبالتالي يظل المرض أمرا خاصا بالفرد المريض ومجموعة من المحيطين به. لاسيما الأمراض المرتبطة بالنواحي العصبية والنفسية كحالات الصرع والإكتئاب.
لذا فإن إغفال بعض الأبعاد الاجتماعية والثقافية للمريض من ناحية بعض الأطباء يجعل الكثير من المرضـى يتركون العلاج الطبي إلى العلاج التقليدي والشعبي لقدرته على التعامل مع تلك الأبعاد. وتعامل الطبيب مع المريض على أساس أنّه مريض وليس كائن اجتماعي، وفرد في جماعة يجعل العلاقة بينهما تأخذ طابعا وظيفيا تغفل معه الأبعاد الاجتماعية والثقافية للمريض.
أما المعالجون الشعبيون فإنهم يتعاملون مع المريض على أنه مجموعة من المكونات الثقافية والاجتماعية وهو الأمر الذي يفسر لنـا سبب استمرار العلاج الشعبي بشكل عام حتى وقتنا الحالي في اليمن وغيرها من الأقطار، بالإضافة إلى رسوخ بعض المفاهيم الخاصة التي تعمل على طرح تفسيرات خاصة بالمرض تتناسب مع مستويات الوعي الخاص بالمرض والعلاج، عكس الطبيب الذي يتعامل مع المريض على أساس أنه مجموعة من المكونات العضوية البيولوجية، كما أن الثقة والاعتقاد المتبادل بين المريض والمعالج من الأسباب الدافعة إلى اللجوء إليه طلبا للشفاء من بعض الأمراض. بالإضافة إلى أن هناك عدداً من شبكات المدلولات الثقافية والاجتماعية المفسرة لمرض ما داخل الإطار الثقافي الشعبي نفسه، أي أن النظرة للمرض والأساليب المتبعة في علاجه، يمكن أن تختلف وتتنوع داخل المجتمع الواحد. وإن كان يوجد في ثقافات جميع الشعوب أساليب علاج غيبية تستعين بها، وتستخلص من بينها ما يمكنها من المحافظة على حياتها ومتابعة نشاطها وتراثنا اليمنى يزخر بكثير من ذلك، و يُزوَّدُ من يعتقد بها بوسائل مختلفة لمواجهة مشكلات مرضية لا يجد أصحابها طرقاً أفضل لحلها بحسب مورثاته الثقافية في هذا الإطار.
وترتبط بالمكونات الثقافية للمجتمعات، كالمفاهيم المرتبطة بالمعتقدات العلاجية، التي ترجع الكثير من هذه الأمراض إلى عدم التوافق بين إلحاح الرغبات والميول الفطرية. وبين ما يتطلبه المجتمع من تضحية في سبيل وحدته وسلامته. ومرد ذلك منشأ الصراع النفسي الذي يعد الخطوة الأولى في تكوين النفس المريضة في حالات لاشعورية من القلق والوسواس الذي يعد الزار [مثلا] التعبير المرضي لهذه الحالات. من ذلك تأتى أهمية من يدعون أن لهم ارتباطا بعوالم الجن والشياطين من المعالجين. تلك الأهمية التي ترجع إلى جوانب الضعف الأساسية في حياة المجتمع وثقافته، خصوصا المتعلق منها بجوانب الصحة والمرض وتجنب الإصابة. وكذا بعض الأساليب التي تفسر بعض الإصابات المرضية.
ولعل التعبيرات عن إشباع الدوافع المقهورة يكتمل بالتحرر من قيود العادات والتقاليد الاجتماعية دون عقاب أو تجريم سواء من الأسرة أو المجتمع. ويعد العلاج بالطقوس شكلا من أشكال هذا الإنعتاق المتمثل في حرية الحركة كما في الرقص والغناء وفي جلسات العلاج الزار [مثلا] وملاذاً من الضوابط الاجتماعية المتغلغلة في الثقافة الشعبية من عادات وتقاليد.
بالإضافة إلى أن الاعتقاد المسبق بالجن والشياطين وتأثيرهما السيء على حياة الأفراد والتدخل في شؤونهم، من الأمور الهامة في هذا الجانب، خصوصاً من الناحية الصحية، حيث ينتشر اعتقاد شعبي مفاده أن كلَّ شخص يصاب بانهيار عصبي، أو فقدان للذاكرة إنما يكون هو من فعل الجن والشياطين الذين يدخلون في جسم الإنسان ويجعلونه على هذا النحو، وغالباً لا يجد الأفراد أي تعليل لهذه الظواهر المرضية غير هذا الزعم، بالإضافة إلى ذلك فإنهم ينسبون كلّ تصرفات المريض وسلوكياته الغريبة، ليس إلى المريض نفسه وإنما إلى الجن والشياطين، ويكثر انتشار مثل هذه الاعتقادات بانتشار حالات القلق والاضطراب والشعور بالضعف والعجز عن مواجهة مشكلات الحياة ومخاطرها الصحية. وفي هذه الحالات يستخدم المعالجون التمائم والضرب المبرح للمريض والرقص، في محاولة لطرد الجن والشياطين من جسمه كوسيلة للعلاج، بالإضافة لمجموعة من الأساليب الأخرى التي كـرستها وتكرسها الثقافة الشعبية. كالحجامة، والكيّ، والرقية، والفدية (راجع1).
والثقافة الشعبية تبرز لنا مجموعة من تفسيرات المرض تلك التفسيرات التي ترجع المرض إلى قوى خارقة مما يهيئ الفرد لتقبل الأساليب العلاجية الشعبية التي تخلق لديه قناعات تؤدي إلى شفائه أحيانا من الأمراض ذات المنشأ النفسي وتساعده على التكيف من جديد مع بيئة الاجتماعية خصوصاً في الحالات المرضية التي لا يتمكن فيها الفرد من الحصول على إجابات شافية لبعض التساؤلات حول أسباب المرض.
وفي حالة العجز عن الحصول على إجابات شافية يستعير الأفراد بعض التفسيرات من المخزون الثقافي الذي يعمل على إيجاد قناعة لدى الإنسان بأسباب المرض وبالتالي التعامل مع نمط معين من العلاج، كالطب الحديث والعلاج بالأعشاب الطبيـة أو بطريقة السحر والعلاج بالعزائم والتمائم والعلاج بجلسات الزار وغيرها من الأساليب المعروفة في البيئة الاجتماعية (راجع 2).

ثانيا
الطب الشعبي امتداد الحاضر من الماضي:
يعرف الطب الشعبي بأنه مجموع المعارف والأفكار والأساليب والطرق الشعبية المتبعة في علاج المرض، سواء كانت مادية أو غير مادية، باستخدام المواد والنباتات المتعارف عليها محليا، أو باللجوء لأصحاب الكرامات والقدرات الخارقة.
ويرتبط مفهوم الطب الشعبي في اليمن بالبحث عن أساليب وطرق للشفاء من المرض لذلك (هو مجموع الممارسات العلاجية والوقائية لمرض أو مجموعة أمراض يستخدمها أفراد المجتمع وفق معارفهم الخاصة وبحسب تفسيراتهم لمسببات المرض ومصادره. ويمكن أن تكون غيبية طقوسي، أو باستخدام الأعشاب والنباتات الطبية (3/ص115).
2
ويقسم الطب الشعبي إلى ثلاثة أقسام، الأول خاص بمجموع الوسائل والأساليب التي تعتمد على الأعشاب والنباتات الطبية في علاج المرض، ويتم تركيبها بالاعتماد على الكتب القديمة والخبرة الخاصة بالمعالج. وكذا يقوم على تفسير المرض على أنه خلل عضوي، وبالتالي يتم العلاج بعيدا عن استخدام الجوانب الغيبية والطقوسية في العلاج. أما القسم الثاني فيضم مجموع الأساليب والوسائل العلاجية التي تقوم على استخدام السحر وبعض الطقوس الغيبية في علاج المرض، كما تعتمد على الأسلوب الإيهامي في العلاج وخلق قناعات لدى المريض بالشفاء من المرض. ويرجع مثل هذا إلى الاعتقاد المسبق بأن أسباب المرض قوي غيبية، (مس شيطاني، أو حالة تلبس). وفي هذا الإطار توجد عدة أساليب تتبع في العلاج، وفي الغالب ما تكون طقوس علاجية تختلف باختلاف المرض ومسبباته. أما القسم الثالث منه، فيعرف بالطقوس الوقائية، وهي طقوس يتبعها بعض الأفراد بهدف الحماية من مرض، أو خوف، أو من تعثر الحظ، أو عدم التوفيق في مسعى، كحمل الأحجبة للوقاية من (العين) أو القيام بإشارات معينة في حالة الوقاية من (البُداة ـ شبر الوجه ـ ).
وتجدر الإشارة إلى أن الطب الشعبي أو الطب التقليدي، أو الطب العربي، أو الإسلامي، مفاهيم تدل على علاج المرض بالأساليب والطرق الشعبية والتقليدية باستخدام الوسائل المتوفرة بالبيئة اليمنية والمعروفة محليا من قبل ممارسين اكتسبوا المهنـة بالخبرة أو التوارث، وعرفوا بأسماء وألقاب عـدة، كــ (السيد، والمنصوب، والولي، والصوفي، والشيخ، والعلقة.... وغيرها). وهي تدل على صاحب المهنة، وتشير بوضوح إلى الأساليب والطرق الشعبية والتقليدية في علاج المرض.
3
وما يمارس حاليا من أساليب وطرق شعبية وتقليدية في علاج المرض لا تعتبر وليدة الصدفة أو نتاج ثقافي واجتماعي معاصر، بل ارث حضاري وثقافي عمره عمر الإنسان نفسه، ومحاولته للبحث عن تخفيف الألم والشفاء من المرض، فالشعور بالمرض والألم دفع الى البحث عن علاج لهذا المرض، وقد كشفت لنا بعض النقوش اليمنية القديمة عن بعض الممارسات التي لا تزال تمارس حتى الأن، اذ عرض البعض منها للنذور التى وفاء بها أصحابها للآلة لأنها شفتهم من المرض، أو رزقتهم بأولاد ذكور أو تحفظ صحتهم، أو نذروا بأولادهم للمعبد ليكونوا في حماية الآلهة، وهو (ما يعرف بشراء الأولاد حاليا من أحد الأولياء). ومن تلك النقوش:
نقشٌ: يتقرب صاحبه للآلهة ذت حميم بابنه المسمي " إل ذرا" وابنته المسماة "آذنة" وكل أولاده وأمواله "بجاه" الآلهة ذت حميم (انظر مرجع4). وفي هذا النقش يحاول المُنذِرُ التقربَ إلى الآلهة التي منحته الأبنا، بنذر ابنه وابنته لها، بل كل أولاده وأمواله، كي تحفظهم الآلهة من المرض ومن كلِّ مكروه، (ولا تزال هذه الفكرة موجودة إلى الآن)، كأن ينذر أحد الأبوين، إنْ تحقـقَ له طلبه أنه سيجعل ولداً من أولاده في خدمة الوليِّ أو السيد، كما تقابل أيضا شراء الولد من أحد الأولياء كـ (ابن علوان) حاليا، أو غيره من السادة والأولياء. فالأسرة التي يموت أبناؤها الذكور في بعض مناطق اليمن تذهب إلى إبن علوان لشرائه منه، وعند الميلاد تخرم أذنه دليلا على أنه مُشترى.
ويتحدث نقش آخر عن أمَةِ "المقة" التي تقربت للآلهة بتمثال امرأة من البرونز كانت قد نذرتْ أنْ تتقربَ به لسيدهم "المقة" كي يشفي أمته "نضارة" من مرض مرضتْ به في عينها وحقا شفتها (4) الآلهة. ويدل هذا على ما كانوا يعتقدون مِنْ تدخل الآلهة في منح الصحة والشفاء من المرض، كما يؤكد على أنّ كاهن المعبد في اليمن القديم، لم تكن مهمة دينية فقط وانما كان يقوم بدور الطبيب والمعالج بالإضافة لبقية أدواره الأخرى. ولعل في هذا تأكيداً على أنّ الكاهن وسيطا بين المريض وصاحب الشفاء (الآلهة) وأنّ فكرة النذور والوفاء بها من قبل الناذر ليس بجديد على مجتمعنا اليمني المعاصر، وإنّما هي فكرة قديمة متأصلة في التراث، ولا يزال يتناقلها أفراد المجتمع حتى الآن. فالمعالج حاليا أيا كان حيا أو ميتا يقوم مقام الآلهة وسادن المعبد قديمـاً، وفي حالة تحقق الشفاء للمريض أو قضائه لحاجة المحتاج. فمن الواجب على صاحب النذر الوفاء به، وإلاّ تعرّضَ لعقاب أشد من الولي أو السيد المُنْذر له. ومثل هذا يُعَدُّ دليلاً على أنّ كثيراً من الممارسات العلاجية الشعبية حاليا هي امتداد للممارسات القديمة للإنسان اليمني القديم، في مواجهة المرض والرغبة في التخفيف من الألم.
وتتحدث مجموعة أخرى من النقوش (راجع 5) عن وفاء أصحابها، أو مَنْ تقدموا بشكرٍ للآلهة الأنها رزقتهم أولاداً ذكوراً، وأن تحفظهم من كلّ مكروه ــ وهذا تأكيد للأهمية الاجتماعية للأولاد الذكور منذ القدم وحتى الآن ـ ولكن طبيعة النذر هنا مختلفة، ففي النقشين المشار إليهما سابقا كان النذر بالأولاد أو المعادن، وهو عبارة عن وفاء به، أما ما في النقش الثالث فليس وفاءً بنذر وإنما هو شكر للآلهة لأنه رزقَ المنذِرَ بأولادٍ ذكور، لذا كانت أضحية من الغنم، وهذا يمنحنا دليلا آخر لتفسير وفهم تقديم الذبيحة طلبا للشفاء من المرض حاليا، فمرض الزار ـ مثلاـ يعالج بفدية.
الا أن بعض المتخصصين في النقوش اليمنية القديمة يرون أن هذه النقوش لم تشر لطرق وأساليب العلاج التى كانت تمارس في المجتمع اليمني القديم.
4
كان المصريون يعتقدون بأن المرض الذي لا يشفي يكون مصدره الأرواح الخبيثة، وأن هناك قوى شريرة تنشر الأمراض والأوبئة، وكذا اليونانيون يعتقدون بأن مرض (الجنان) ناجم عن لبس شيطاني، والبابليون يعتقدون بأننا محاطون بالأرواح من جميع الجهات، منها الخبيثة ومنها الطيبة، والطائفتان في حرب مستمر، وكانت جميع الأمراض تنسب إلى الأرواح الشريرة أو الخبيثة. كمـا وجد فـي التراث اليوناني والعربي الإسلامي من بعده ما يعرف بنظرية (الأخلاط والأمزجة) التي لا يزال بعض المعالجيين التقليديين يستخدمها حتى الان، والتي ترى أن الإنسان مكون من أربعة عناصر أساسية (التراب، والهواء، والنار، والماء) ومن الضروري أن تكون في حالة توازن ليتمتع الجسم بالصحة، أما فقدان التوازن، يؤثر على خواص الجسم (الدم، والبلغم، والصفراء، والسوداء) مما يسبب المرض، ومن خلال هذه الرؤية للكون والإنسان كان البحث عن العلاج، باستخدام المواد النباتية والحيوانية، وتحديد الانسب منها لكل مرض من الأمراض.
كما وجد ضمن العلاج العربي الإسلامي القديم ما عرف بالعلاج (بالاوفاق) والتي تقوم على أنِّ لكمال الأسماء مظاهر؛ وللأفلاك والكواكب أرواح، وان طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء فهي إذاً سارية بالتبعية في الأكوان. وبما انَّ للأحرف طبائع شانها شأن الكون، فهي تنقسم بحسب طبيعتها طبقا لقانون سُمّيَ بقانون (التكسير) إلى "نارية وهوائية وترابية ومائية " وهى العناصر الأربعة للكون، فالألف للنار والباء للهواء والجيم للماء والدال للتراب ثم نعود ثانية بالترتيب نفسه حتى نهاية الحروف الأبجدية ( أبجد هوز) وتتناسب الأعداد معها، فالألف يرمز إلى الواحد والباء إلى اثنين والجيم ثلاثة والدال أربعة ... والفاء مائة، وهكذا تربط هذه الأحرف والأرقام بالطبائع الأربعة. انطلاقا من أن لكل كوكب من الكواكب السيارة ـ وَفْقٌ ـ منسوبٌ إليه، ولكلّ حرفٍ من حروفٍ الهجاء ـ وفق ـ ولكل ـ وفق ـ تأثير يظهر منه بحسب تأثير الكوكب أو الحرف، وللحروف خواصّ وللأعداد أسرار فمن جَمَع بين الخواصّ والأسرار فقد أُلْهِمَ السرّ الأكبر (6/ص496-504، وكذا 3/صفحات مختلفة). ويعني هذا ان العلاج بالسحرية لا يخلو في بعض جوانبه من الاستعانة بالرياضية والفلك.
5
وفي جميع العصور لم يكن العلاج يخلو من استخدام السحر، فقد كان الطب مليئًا بالسحر والطقوس السحرية، وكانت التعاويذ والرقـى من الأدوات الناجحة التي يطبب بها المرضى وتطرد الشرور، ومن العلاج الذي يشفي الأمراض، وكان الأطباء يستخدمون في علاجهم أنواعا مختلفـة مـن الأعشاب النباتية مع تلاوة بعض الألفاظ والعبارات السحرية التي يتم ترديدها مرارا وقد تكون هذه العبارات مدونة في الدواء ويشربها المريض لتكسبه قوتها الشافية، كما استعملوا الأجزاء القذرة من الحيوانات في حالة بعض الأمراض كطرد الشياطين ذات السمات والخصائص الرديئة (راجع7ص74).
وفي حالة وجود مرض منسوب إلى القوى الخفية ولا يرون فائدة من الدواء فانهم يسعون إلى التخلص من تلك القوى الخفية بالتوسل بروح أقوى منها أو الالتجاء إلى أعمال السحر، وهو الأمر الذي جعل السحرة والكهان يقومون بأعمال الطب والعلاج. ولا يزال هذا الدور يقوم به بعض المعالجين للأمراض التي لها مصدر غيبي أو روحاني ناجم عن لبس شيطاني ويؤكد بعض أولئك الذين لهم معرفة بهذا النوع من العلاج أنّ بعض الأمراض النفسية سبق لهؤلاء المعالجين شرح طرق علاجها، وهم يرون أن الأطباء لا يستطيعون علاجها كونهم يتعاملون مع الجوانب المادية للجسم البشرى ومحاولة إصلاح الخلل العضوي. بينما هذا النوع من العلاج ينظر إلى الجسم البشرى على أساس أنه يتكون من جسد ونفس، وعليه فإن أمراض النفس لا تعالج إلاّ لدى من لهم معرفة بأصول السحر وقواعده وبطرق تكلم عنها الأقدمون وشرحوا علاجها وعللوا الأمراض بتعليلات كثيرة.
6
وتجدر الإشارة إلى أن مصادر المرض ترجع حسب مفهوم المريض الى المصدر (الغيبي دون سواه)، والمتمثل في الجن والشياطين أو ان جميع الأمراض نتاج لقوى غيبية ( فعنينة الرجل، وعدم قدرة المرأة على الإنجاب، وحالات الأمراض النفسية والعصبية، وعدم التوفيق في المسعى، بل وحتى كسور العظام أحيانا) ترجع أسبابها إلى تلك القوى التي تضمر الشر بالإنسان بصورة دائمة، نتيجـة لطبيعة العلاقة العدائية بينهما. وهو الأمر الذي يجعل من الصعب علينا الفصل بين الأمراض المختلفة، كون التداخل يوجد في الفهم والتفسير الخاص بأسباب المرض.
وتعد قضية المرض من أهم القضايا التي يتم إعادتها إلى قوى غيبية، أو إلى مجرات وكواكب بعيدة عنا. فكل من يصاب بالحمى ولا يعرف ما السبب؟ أو يصاب بالقيء ولا يستطيع أن يربط هذا بسبب محدد، فانه يرجع ذلك إلى فعل الأرواح الشريرة أو السحر أو إستحواذ الجان على جسم الإنسان و دخــــول جسم غريب فيه. هذا الفهم المرتبط بالمصادر الغيبية للمرض يجعل المريض يتبع الجوانب السحرية والغيبية في علاج المرض. لكن الفهم المنطلق من الأسباب العضوية للمرض والخلل في أداء العضو المصاب لوظيفته يجعل المريض والمعالج يسلكان سلوكا يهدف لإصلاح الخلل، من خلال إتباع مجموعة من الوسائل العقلانية في العلاج المعتمد على الأعشاب والنباتات الطبية أو العلاج لدى الطبيب.
لذلك فالظواهر التي لا تبدو أسبابها ملموسة في الوجود المادي يتم إرجاعها إلى وجود غامض ومسببات غير مرئية وغير محسوسة تخترق جسم الإنسان، اذ لم يكن أمامه غير الاعتراف بوجود قوى أخرى غير منظورة تحدث كل هذه الأشياء المؤثرة. ومثل هذا الاعتقاد توارثته جميع الشعوب بلا استثناء واستمر قائماً بذاته، أو مختلطاً بأفكار دينية حتى عصرنا الحاضر.
وهذا النوع من الاعتقاد والتفسير دفع بالبعض إلى سلوك يتناســب وهذا التفسير، فالأفراد الذين يعتقدون بأن القوى الغيبية من جن وشياطين تلعب دورا في وجود المرض، يلجأون إلى من له القدرة والسيطرة على هذه القوى لعلاج أمراضهم، بينما الأفراد الذين يعتقدون بأن أسباب المرض ناجمة عن خلل عضوي أو فسيولوجي أو باثولوجية كالجراثيم والميكروبات يلجأون إلى الطبيب في العلاج. وتعمل المعتقدات على تحديد نوعية العلاج الذي يلجأ إليه المريض، سواءً كان طباً شعبياً أو حديثاً. وأحياناً قد يدفع الاعتقاد باسلوب معين من الأساليب الشعبية إلى اتباعه وتفضيله من قبل المريض دون غيره من الأساليب (انظر4،5). وينظر بعض الباحثين العرب إلى أن التفكير العلمي وغير العلمي من حيث الوظيفة يستهدف تفسير الظواهر المحيطة بالإنسان في بيئته. بغية الوصول إلى الوسائل الفعالة التي تساعد على التحكم في البيئة وتأمين حياة الأفراد (9/ص40) داخل المجتمع.
ويقوم هذا التفسير للمرض ومسبباته على مفهوم خاطىء للعلية وهو الأمر الدال على عجز المفاهيم العلمية في تفسير أو حل بعض من مشاكل الفرد كون ذلك يعني فقداناً للأمل وسد المنافذ أمامه في إيجاد المبررات لما يحيط به. لكن التفسير الغيبي يخلق لدى الفرد نوعاً من الأمل النفسي في إيجاد المبرر لأي مشكلة يعاني منها وأملاً في حلها أو علاجها، كما يلجأ إليها عندما لا يجد اسلوباً أخر أفضل منها، فتكون المبررات الغيبية الميتافيزيقية نوعاً من المحاكاة النفسية والذهنية. وتفسيراً مقبولا لمثل هذه الظواهر، بالإضافة إلى إنه يعزز الثقة لدى أفراد المجتمع. وإن كان في نظرنا نوعاً من أنواع الوعي الإنساني، يحاول فيه الفرد إيجاد مبرراً أو تفسيراً لما يعتقد ان الطب الحديث غير قادر على تشخيصه وتشخيص مسبباته.
7
وإذا كانت الخرافة والاسطورة والاعتقاد بالجن والشياطين وقدرتها على اصابة الفرد بالشر تعد جزءاً من الثقافة العامة بالمجتمع، وانّ كل ما يحدث مرده الى عالم الغيب. فان مثل هذه الأساطير والسير تعمل على تكريس فكرة وجود عوالم غيبية لها سلطة الرقابة وقدرة الاصابة بالشر، وتتجلى مثل هذه القدرة بالشكل المرضي وتظهر على هيئة تشنجان عصبية وألآم عضوية لا تصيب الاّ من يحاول ان يسلك سلوكا خاطئاً ومعارضا لبعض القيم الاجتماعية.

ثالثا
أسس وأساليب علاجية لتفسيرات شعبية:
تعتبر التفسيرات الشعبية للمرض دعامة أساسية يعتمد عليها الباحثين في إصدار أحكام تقوم على رفض التراث الخاص بالعلاج التقليدي لدى الشعوب واعتباره نوعا من الشعوذة والدجل والخرافة وهو الأمر الذي نعتقد انه يقوم على الكثير من التجني والقوالب الجاهزة والمواقف المعدة سلفا من قبل الباحثين كل بحسب النظريات التي يتبناها.
فالمسح السطحي للمفاهيم والمواقف الشعبية تجاه فهم وتفسير المرض من قبل الباحثين يزيد من الغموض لدينا لأسباب المرض. في الوقت الذي قد يدفعنا إلى التأني والبحث المتعمق إلى الكثير من الحقائق العلمية ومعرفة الأسباب الجوهرية وراء حدوث مثل هذه الأمراض. والبعد الخاص بتشخيصها وطرق علاجها.
والموروث الثقافي يمنحنا تفسير يقوم على ان العين نوع من القوى الغيبية المسخرة لفرد ما يؤذى بها الاخرين وحتى نتجنب العين من الضروري مراضاة صاحبها او لبس حجاب ... الخ.
ومثل هذا الفهم الموروث ظل يورث من جيل لأخر مما عمل على إيجاد موقفين أساسيين تجاه العلاجات الشعبية، الأول: يقف مع هذه التفسيرات ويعمل بها، ويجزم بمصداقيتها ويحاول الاستفادة منها بين ان واخر، لكن جهل أصحاب هذا الموقف بالأسس النظرية والخلفية التطبيقية لمثل هذا يجعل ممارساتهم أكثر جهلا. والثاني: يرفض هذه الموروثات ويقف ضدها ويعتبر كل سلوك علاجي ينطلق منها نوع من الخرافة والشعوذة. وهذا الموقف أيضا ينم عن جهل أصحاب هذا الموقف بطرق وأساليب العلاج التقليدي نظريا وعمليا.
ومثل هذه المواقف خلقت قناعات خاصة لدى الجميع كل بحسب قناعته وبما يعتقد به. كما يدل على جهل أصحاب الموقفين بالتحليلات والنظريات العلمية الحديثة والتي تساعد في التفسير العلمي والصحيح لكثير من التفسيرات الشعبية للمرض. مما أدى الى عدم تجديد هذا الموروث، او العمل على تطويره مثل بقية العلوم الإنسانية الاخرى. أو إخضاعه للتجربة العلمية وبالتالي رفضه وفق أسس منطقية.
2
وربما نكون هنا قد خضنا في منطقة هي اقرب ما تكون الى" التابو" الاجتماعي متجاوزين خطوط كثيرة يرسمها علما الاجتماع والانثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي في نظرتهم للسحر (مثلا) وبعض أساليب العلاج الاخرى. وفي مناقشاتهم للقضايا الفكرية والمنهجية المرتبطة به وفي تفسيرهم لبعض السلوكيات التي يقوم بها الأفراد تجاه المرض بحثا عن العلاج.
وهذا الموقف من قبلنا لم يكن مصادفة، وانما جاء بناءا على قراءات متعددة ومتنوعة لجميع الاتجاهات ومختلف الدراسات في هذا الجانب منها الحديث والمعارض ومنها القديم المؤيد والمعارض ايضا، بعين فاحصة ومتجردة بهدف سبر أغوار الحقيقة الكاملة.
وكان أول ما شدنا النظر إلى السحر والتعامل معه من قبل العديد من الفلاسفة والمفكرين السابقين على انه علم، وتقسيمه الى السحر العلوي والسفلي، فالسحر العلوي علم يعتمد على الله وملائكته والجن الصالحين، وكذا أسرار شرعية اخرى، ويستخدم دائما لأغراض خيرة ، ولا يدركه ولا يمارسه غير الصادقين والذين يتعلمون من الحديث أدعية "جمع دعاء" تكفل اجابة رغباتهم . وكتابة الأحجبة للغرض الصالح بالتنجيم وبعلم أسرار الأعداد (10ص7). ولما كان السحر يرتبط ارتباطا وثيقا بعلوم اخرى لها مكانتها بين العلوم المعاصرة كالرياضيات والفلك، واشتغل به اوناس لهم مكانتهم وتأثيرهم الواضح في العلوم المعاصرة كارسطو وجابر بن حيان والكندي ومسلم بن احمد المجريطي... وغيرهم. فمن الضروري التعامل مع السحر بتجرد من الاحكام الذهنية المركبة والجاهزة مسبقا. ويمكننا عرض بعض الاستنتاجات حول العديد من القضايا المرتبطة بكتابة السحر واستخدامه على النحو التالي:
3
1- في حال كتابة السحر أو العمل في الحالات المختلفة، بقصد إصابة الاخر بالمرض أو تحقيق هدف معين أو شفاء الاخر من المرض أو إحباط لمسعى شخص.فان الهدف لا يتحقق منها الا اذا اتبع الممارس للسحر الشروط الخاصة بها أثناء الكتابة والتي تتمثل في:
أ/ إتباع الزمن الفلكي المحدد للكتابة، كاليوم والوقت والساعة.
ب/ استخدام المادة المناسبة للكتابة، كماء الورد "مثلا" واستخدام أنواع من البخور والطهارة وغيرها.
جـ/ الالتزام بالتكرار الخاص بالكلمات التي يتضمنها العمل والأشكال والأحرف الهجائية والأعداد المخصصة لكل عمل.
4
وتشير المصادر القديمة في هذا الإطار إلى ان للحروف الأبجدية روحانية خاصة تختلف من حرف لأخر وهذا الاعتقاد جعل المهتمين بهذا الجانب يربطون بين الحرف والمنزلة، فكل منزلة يقابلها حرف من الحروف، ومجموعة من الأرقام، ولما كان للحروف الهجائية روحانية خاصة وللأرقام أسرار خاصة أيضا، فقد تم الجمع بين الحرف والرقم بهدف الاستفادة من عملية التفاعل الناجمة عن اتحاد الحرف بالرقم.
وهذا التزاوج بين الحرف والرقم في نظرنا هو السر الكامن في استخدام بعض الآيات والتراتيل في العلاج دون غيرها مما يعني ان العلاج ليس نصا قرآنيا وإنما هو مجموعة من الحروف المتحدة مع مجموعة من الأرقام المساوية لها والتي تعطينا في الأخير رقما خاصا يتطابق فـي جميع النصوص المستخدمة بالعلاج. وهو ما يمكن ان يمنحنا تفسيرا واضحا في حالة التوصل الى مصداقية، لاستخدام المعالجين في مختلف الديانات لنصوص علاجية دون غيرها كل بحسب الديانة التي ينتمي إليها، كون المسألة العلاجية مسألة نص يتكون من مجموعة من الأحرف يقابلها مجموعة من الأرقام تتساوي في جميع النصوص المستخدمة في العلاج، سوءا كانت تراتيل سحرية ممن كانت تستخدم قديما، أو نصوص توراتية، أو إنجيلية، أو آيات قرآنية.
5
وفي العديد من الكتابات العربية والمأثورات القديمة يعتقد ان الكواكب السيارة لها روحانية خاصة تؤثر على المولود في البرج المرتبط بهذا الكوكب، ويختلف هذا التأثير من زمن لأخر بحسب حركته منذ لحظة الارتباط بين الكوكب والبرج والمنزلة وحتى مماته. وينعكس هذا على صحته وسماته الشخصية وكل مسار حياته الخاصة والعامة.
واذا افترضنا ان لهذه الكواكب روحانية ـ وفقا للكتابات القديمة ـ ولها تأثير فان هذا التأثير يتمثل في مقدار الجاذبية للأرض وكذا كمية الغازات المحيطة بالأرض والمناخ ودرجة الحرارة، بالإضافة إلى مختلف التفاعلات الطبيعية سواء المحيطة بالأرض أو التى بداخلها والناجمة عن حركة الكواكب ودورانها حول الأرض. وليس نتيجة لتأثير روحاني. فجسم الإنسان يتأثر بالقوى الجاذبة للموجات الكهرو مغناطيسية والتى تنظم حركة الكون بأكمله (11ص294).
وفي هذا الخصوص اثبت العلم الحديث مؤخرا وجود مثل هذا التأثير والذي ينبعث من القمر ويؤثر بدرجة واضحة وكبيرة على تصرفات وسلوك الإنسان، وان اكتماله يسبب لبعض الأشخاص اضطرابات في العقل اذ تكون تصرفاتهم اقرب إلى الجنون، مما قد يسببون لأنفسهم أو لغيرهم أضرار ودون ان يعوا ذلك، ومايلبث ان يعود الشخص إلى حالته الطبيعية بعد ان يغير القمر وجهته (راجع 11ص296).
وربما يكون الأمر في حالة "محمد" دليلا واضحا على هذا التأثير، فمحمد عسكري من بني مطر يصاب دائما بنوبات عصبية عند اكتمال القمر في منتصف كل شهر ولمدة يومين فقط ، وفي اليوم الثالث يعود الى حالته الطبيعية لكنه لا يعي ما حدث له ولا الحالة التى انتابته، ونتيجة لتكرار هذه الحالة بصورة مستمرة أصبح الأمر مألوفا لدى زملائه في المعسكر مما يجعلهم يستعدون له بالقيود والسلاسل الحديدية ابتداء من اليوم الـ 13 من كل شهر حتى لا يحدث ضررا بهم او بنفسه. وتحدث مثل هذه الحالة نتيجة لاكتمال القمر، والذي يكتمل معه المجال الكهرو منغاطيسي لدى "محمد" ويظهر التأثير على شكل نوبات عصبية، لاسيما اذا عرفنا ان تأثير القـمر على الإنسان عند اكتماله يفوق التأثير المنبعثة من قوائم كهرباء الضغط العالي بأربعة وثمانون مرة، لكن تفسير الأمر لدى العامة والمحيطين به يرجع إلى تأثير قوى خارجية تتمثل بتلبس الجن والشياطين له.
6
ان نظرية الأخلاط" الطبائع والأمزجة" تعتبر جزءا من تراث ونظريات علم النفس الحديث، وهى في الواقع فكرة قديمة أسسها وعمل بها المعالجون المعتمدون على السحر أو الطلسمات في علاج مرضاهم، وهذا يؤكد ان تراثنا في هذا المجال بحاجة لكثير من الدراسات المتجردة عن الأحكام السابقة باعتباره نوع من الشعوذة والخرافة ونفي لتراث إنساني كامل وإنما في إطار وضع فرضيات خاصة خاضعة للتجربة والتأكد من صدقها أو كذبها في ارض الواقع، وعلى ضوء المعطيات التى تمكننا من إصدار الأحكام بعد ذلك.
7
يمتلك بعض الأفراد قدرات خاصة مما يجعلهم متميزين بامتلاكهم هذه القدرات فالقدرة على روئية الماء في باطن الأرض، وكذا اختراق الجدران الصماء ومشاهدة ما بعدها وبدقة كاملة، انما هي قدرات خاصة بمركز الإبصار في الدماغ ويتمتع بها بعض الأفراد دون غيرهم. وليست ناجمة عن امتلاك قوى مسخرة لمن يتمتع بها من الجن والشياطين. ويؤكد "على الوردي" وجود مثل هذه الطاقة أو كما سماها هالة في جسم الإنسان يتمتع بها بعض الأفراد ويستطيع بها الفرد اختراق حاجز الزمان والمكان(10ص18) وان كانت موجودة لدى جميع الناس تقريبا، الا انها لا تظهر عند الجميع على درجة واحدة فأغلب الناس يملكون منها قسطا لا يكاد يحسون به (10ص 30). وقد اهتمت جامعة (ديوك) بدراسة القوى النفسية والطاقة لدى بعض الأفراد مما عمل على إثبات وجود مثل هذه القوى لدى البعض بنسبة مرتفعة عن غيرهم.
ولا يزال العلم غير قادر على معرفة كل الأشياء ولا يزال عاجز عن اكتشاف كل طاقات ومكونات الجسم البشرى والتى لم تدرس حتى الان. كما اننا لا نزال عاجزين كأفراد عن استغلال كل القدرات والطاقات التى يتمتع بها الجسم البشرى ولا نزال غير قادرين على استخدام أكثر من 18% من قدرات وطاقات الدماغ الإنساني عند اكثر الناس ذكاء وعبقرية. ومن الأمثلة التي صادفتنا في هذا الآتي:
1- طفل لا يتجاوز عمره سبع سنوات أصيب بنزلة برد وبارتفاع شديد بدرجة الحرارة، وأثناء ذهابه إلى الطبيب بدء يهذي ببعض الكلمات عن الماء والغرق وجريانه بغزارة. ظنت الأم أن ذلك بفعل الحرارة المرتفعة. الا أن الأمر تغير بعد تماثله للشفاء وصار حقيقة تلازمه بصورة دائمة كلما طلب منه ذلك.
فقد كان لارتفاع درجة الحرارة تأثير فـي تنبيه مركز الإبصار في الدماغ بحيث أصبحت قدرته تفوق قدرات الفرد العادي.
2- اما امتلاك هذه القدرات بفعل التدريب يتجسد في الحالات المدربة على عملية التخاطر عن بعد بين شخصين أو أكثر عن طريق إرسال رسالة ما لتصل في نفس الوقت للآخر كما أرسلت بالرغم من التباعد المكاني.
ان كثير من الأمراض يرجعها الناس لحالة التلبس، وهي الحالة التي يلبس فيها الجن الإنسان، أو يدخل فيها جسم الإنسان، وهناك نسأل عن الكيفية التي يحدث فيها ذلك؟.
في حال الإجابة من الضروري أولا العودة إلى مسألة الخلق والتكوين الخاص بكل من الإنسان والجن. فقد ذكر في القرآن الكريم {قال ما منعك ألاّ تسجد اذ أمرتك قال أنا خيرُ منهُ خلقتني من نَّارٍ وخلقتهُ من طينٍ (سورة الأعراف آية 12)} وقال تعالى {خلقَ الانسَـنَ من صَـلصَلٍ كالفخَّــار* وخلقَ الجانَّ من مارجٍ من نار (سورة الرحمن الآية13-15)} وقال تعالى { والجانَّ خلقنـَاهُ من قبلُ من نارِ السَّمُوم (سورة الحجر آية 28)}. ففي هذه الآيات تحديد من الله لطبيعة التكوين الإنساني من المادة والطاقة، والجان من طاقة فقط، والطاقة مادة محسوسة وغير ملموسة، أما الطين فيحمل الشيئين معا.
من ذلك تتضح لنا عملية التلبس بمعناها الحقيقي التي تبتعد عن عملية الإيلاج أى دخول الشئ في الشئ، وانما اختراق طاقة لطاقة أخرى أقل منها مما يؤثر على وظائف الأعضاء المكونة من المادة والمسيرة بالطاقة.
وفي الآية { الذين يأكلون الرِبواْ لايقومون الاَّ كما يقُومُ الذِي يتخبطه الشيطانُ من المس (البقرة الآية 275)} وقال تعالى {ان الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فاذا هم مبصرون (الاعراف آية 201)}، وفي الحديث النبوي { ان الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم}. وفي هذا دليل على أن الجن تمس الإنسان بضر هي تأكيد لفكرة الإصابة بالمرض من خلال التأثير على الطاقة الموجودة بجسم الإنسان، من قبل الطاقة المتحدة معها (طاقة الجن)، وهذا يؤكد لنا:
1- ان مسألة وجود الجن حقيقة واقعة، فاذا كنا نحس بأثر الشئ فلابد أن نقتنع بوجود المؤثر ذاته، فالكهرباء لا نراها لكن نحس بأثرها في حالة المس الكهربائي.
2- ان الطاقة لا ترى بالعين المجردة ولكن تقاس بالأثر الناجم عنها وخلق الجان من النار فقط هو استبعاد للمادة المجسدة، والتي قد تكون عائقا في عملية الإصابة، كونها تتطلب الإيلاج مما يعني الوضوح والبروز المجسد للإصابة، لكن الطاقة تستبعد مثل هذا الوضوح والاثر للإصابة في الجسم، ولا يبدو غير أثرها المتمثل فـي خلل اداء وظائف الجسم.
3- ان فكرة المس الشيطاني أقرب الى التصديق منها الى النفي والتكذيب، اذا ما تعاملنا معه وفق الفهم السابق للظاهرة.
8
وما يعرف بالعين الشريرة والتي تصدر عن شخص ما لتصيب اخر كان ولا يزال الاعتقاد بأنها نوع من أنواع الجن والشياطين المسخرة للمصدر. لكن تفسيرنا لهذه الظاهرة تؤكد على امتلاك البعض لطاقات خاصة يتم إصدارها في لحظات لتصل للاخر مما يعمل على التأثير عليه، وهى طاقة لا ترى بالعين المجرة، ولا نعتقد ان مركزها العين، وانما مركز الا بصار بالدماغ، وهى عبارة عن ذبذبات أو طاقات تصدر عن شخص ويستقبلها الاخر دون شعور أو إحساس بها من المصدر أو المستقبل (راجع12) . كما أثبتت الأبحاث الحديثة ان دماغ الإنسان يصدر أمواج كهربائية تختلف من شخص لأخر ومن وقت لأخر (10ص154) في كميتها وقوتها. وفي تجارب قام بها احد الباحثين الامريكيين في جامعة "كورتل" ذكر ان العين التى لها القدرة على الإصابة اذا حدقت في خلايا الخميرة فانها تتلفها، لوجود أشعة غير منظورة تنبعث منها وتؤثر في الخلايا، كما تنبعث الأشعة فوق البنفسجية من بعض المصادر وتؤثر في النبات والحيوان والإنسان على وجه الخصوص (10ص15). ويؤكد احد اليمنيين ممن يمتلكون القدرة على الإصابة بالعين ممن قابلناهم، يؤكد بخروج دائرة حمراء من عينه اليسراء تنطلق نحو الاخر لتلحق به الضرر .
وتعتبر مثل هذه الطاقة لدى بعض المخلوقات "كبعض الأسماك والثعابين" وسيلة دفاعية عن النفس ضد اى مخاطر فبعض الأسماك التى تصدر شحنة كهربائية تشل بها حركة من يهاجمها، وكذا الثعبان المعروف بذو الخطين، والذي يصدر شحنة كهربائية عند شعوره بالخطر كوسيلة دفاعية، هذه الشحنة قد تصيب الإنسان بحسب قوتها، اما بالعمى الجزئي أو الكلي، لكنها تفسر من قبل العامة على ان مثل هذه الثعابين ما هي الا نوع من الجن تظهر لنا على هذه الهيئة. والشحنة الكهربائية ما هي الا حالة التلبس لبني البشر من قبل الجن.
ووفقا لهذا فالعين ما هي الاصفة فيزيقية يتمتع بها بعض الأفراد بيولوجيا دون غيرهم، وترجع لامتلاك البعض طاقات كامنة في الجسم ترتفع نسبتها عند البعض عن الحد المعلوم عنها في الشخص الطبيعي. الا ان الموروث الثقافي ونتيجة لعجزه عن فهم هذه الطاقات واكتشافها جعل من يمتلك هذه القدرات في نظر الاخرين شخص له القدرة على امتلاك الجن والشياطين وتسخيرها لصالحه وانه يستمد قدرته هذه منها.
وقديما ارتبط وجود مثل هذه الطاقات لدى بعض الأفراد بالقوى الغيبية كالجن والشياطين. وربطت بالسحر والشعوذة، واعتبرت دليل على وجود عالم الروح أو ما يسمي بعالم ما وراء المادة (10ص28). وان كان في الحقيقة دليل على عجز العقل البشري عن إدراك ومعرفة مثل هذه الطاقة سببا في تفسير بعض الأحداث والحالات المرضية غيبيا.
9
وتعتبر قراءة الفنجان والكف وضرب الرمل نوع من الخرافة والدجل والشعوذة لدى غالبية أفراد المجتمع، في الوقت الذي نجد قراء ة الكف تقوم على معرفة الخطوط الموجودة في باطن الكف والأصابع وهذه القراءة تكتسب بالخبرة والاطلاع والتدريب.
لكن مصداقية هذه القراءة التى تشير إلى توقعات مستقبلية وأحداث يمكن ان تصادف الفرد، انما تقوم على دقة التدريب للقراءة وخبرة القارئ العملية والعلمية.
اما ما يخص قراءة الفنجان والرمل، فانها تقوم على استجماع القوى والطاقات العقلية التى تعمل على توقيف عملية التفكير الاعتيادية بهدف تلقي الذبذبات التى تمكن القارئ من كشف الحقيقة في لحظات من الصفاء الذهني التام (انظر 10ص169).

رابعا
وفي الختام فان العديد من الممارسات العلاجية التى يمكن وصفها بالشعوذة والخرافة تعد ناجمة عن جهل في الممارسة وعدم الاطلاع على أصول المهنة وقصور في تفسير الظاهرة. وان الكثير من الظواهر في جانب المرض والعلاج لا يمكن ان تكون خرافية وانما تفسيرها هو الخرافي والذي توقف عند حدود الأسطورة والتفسير الاسطورى دون اى تطوير، ونتيجة لجهلنا بالتفسيرات العلمية لها. ومن الضروري إخضاع مثل هذه الظواهر للبحث العلمي والمعملي، والابتعاد عن الأحكام المسبقة والجاهزة والتى تنطلق أساسا من مضامين الثقافة الشعبية وخصوصا من قبل المتعلمين.
2
ان مناقشاتنا الأولية لبعض الظواهر المرتبطة بالعلاج انما هي تفتيح لموضوعات للمفهوم ومعناه، والمفاهيم المرتبطة به، وتطوره، وكذا للعوامل الأساسية الـتي تقف وراء استمرار هذا النوع من العلاج، وأسباب اللجؤ اليه، ومن ثم التعرض لبعض القضايا التي تجعل من بعض المعالجين مصدرا من مصادر الهالة الاجتماعية. من خلال تمتعهم ببعض الطاقات والقدرات التي لا يتمتع بها الفرد العادي.
وتصوراتنا السابقة حول هذه الظاهرة لا تعتمد على الأسلوب القسري والإلغاء، أو القبول الكلي والارتماء بين أحضان الظاهرة بكل سلبياتها وشوائبها، وإنما بالمناقشة الهادئة والموضوعية.
ان دراسة ظاهرة العلاج الشعبي لا يتطلب منا الحدة والتعصب في اتخاذ المواقف تجاهه، بل يتطلب الإلمام أولا بالعوامل والأبعاد ذات العلاقة بهذه الظاهرة المؤثرة بصورة مباشرة على سلوك الأفراد. وتحدد مواقفهم تجاه هذا النوع من العلاج أو ذاك، لاسيما وان للأفراد مواقف متغيرة تجاه العلاج الشعبي، وهناك حقائق أو ظواهر فوق مستوى تفسير الإنسان لها، تدعم مواقف المعالج والعلاج الشعبي، وفي ذات الوقت تعد الممارسة العلاجية جزءاً من ثقافة متأصلة في المجتمع، وانعكاس لبعض المفاهيم الشعبية حول المرض ومصادر علاجية، الا أن عشوائية الممارسة من قبل المعالجين جعلت منه أسلوبا أقرب ما يكون للشعوذة والدجل.
والله الموفق،،،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر في مجلة شؤون اجتماعية، الشارقة، ع 69، 2007م.
1- أرمن شوبن، الطب الشعبي في الجمهورية اليمنية، ترجمة احمد الصايدي، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني، مجلة دراسات يمنية، ع13، 1983م.
2- ــــــــــــــ، جلسات الزار في تهامة، مجلة اليمن الجديد، صنعاء، مجلة شهرية، تصدر عن وزارة الثقافة،ع7، يوليو 1988م.
3- ــــــــــــــ، الثقافة الشعبية وعلاقتها بالمرض والعلاج في المجتمع اليمني المعاصر، دراسة سوسيو انثروبولوجية، رسالة دكتوراه،جامعة صنعاء، كلية الآداب، قسم الاجتماع، 2001م.
4- إبراهيم الصلوي، اللغة اليمنية القديمة، مسودة غير منشورة.
5- مطهر الارياني، نقوش مسندية وتعليقات، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني، 1990م.
6- عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، بيروت، دار القلم، ط6، 1986م.
7- محمود نصار، الأسرار الكونية في العلوم الروحانية، القاهرة، مكتبة الجمهورية، مجهول بقية البيانات.
8- عبد الله معمر، الطب الشعبي والتطور الاجتماعي في اليمن، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1999م.
9- نجيب اسكندر، رشدي فام، التفكير الخرافي، بحث تجريبي، القاهرة، مكتبة لانجلو المصرية، 1962م.
10- على الوردي، خوارق اللاشعور، لندن، اوراق للنشر، ط2، 196م.
11- سمير يحي الجمال، الطب الشعبي التقليدي، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1992م.
12- محمد غنيم، فاتن محمد شريف، السحر والحسد في المجتمعات الريفية، الاسكندرية، دار المعارف، 1998م.
* وللمزيد من المراجع والاطلاع حول العلاجات الشعبية في اليمن، يمكن العودة الى:
- نزار غانم، مصادر دراسة الطب البديل في اليمن، صنعاء، مكتبة عبادي، ط1، 2001م.
- عبد الله مـعـمـــر، النسق الصحي في اليمن، مجلة دراسات يمنية، مجلة فصلية، يصدرها مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، ع42، اكتوبر 1990م.
- Cynttia Myntti,.Medicine in its Social Context, Observations From Rural North Yemen. Thesis submitted for the degree of doctor of Philosophy, the University of London (London School of Economics and Political Science) 1983.

الجمعة، 4 يونيو 2010

فهم واقعنا الثقافـي ... لماذا؟



فهم واقعنا الثقافـي ... لماذا؟

لكي نفهم النظريات الاجتماعية والثقافـية المحدثة نتعامل معها، ونصل الى للإجابة عن التساؤل: ما مدى مواءمة مثل هذه النظريات لمجتمعنا، وما مدى قدرتنا على التعامل معها نجد أن من الضروري التعرف على ملامح ثقافتنا وسماتها، ولاسيما الثقافة الشعبية التي تتشكل منها البنية الثقافـية للمجتمع، والتي نعتقد أن بين طياتها تكمن مفاصل تقدمنا وتطورنا، وبينها أيضاً تكمن عوامل تخلفنا وعوائق تقدمنا.
لذلك أجد نفسي منساقا الى سبر أغوار تأثير الثقافة الشعبية على كثير من المتغيرات الاجتماعية ، كالصحة وتفسير أسباب المرض، وكيفـية التعامل معه وقائيا وعلاجيا ... انطلاقا من أن فهم مضامين الثقافة الشعبية سيمكننا من فهم الواقع الاجتماعي كاملا، وسيفسح أمامنا أفاقا جديدة تمكننا من التعامل مع أية نظريات أو مفاهيم جديدة وافدة تفرض علينا من قبل الغير، أو يحاول البعض التعامل معها وفرض تطبيقها فـي واقعنا.
وكان قد سبق فـي فترة من الفترات محاولة العديد من سياسي العالم الثالث ومثقفـيه التعامل مع النظرية الماركسية، وفرض مبادئها وأهدافها فـي بلدانهم، دون أن ينظر مثل هؤلاء الى واقعهم الثقافـي والاجتماعي متناسين قيم مجتمعاتهم وعاداتها وتقاليدها وتراث كل منها، معتمدين على أخذ قوالب ونظم جاهزة لمجتمعات أخرى تختلف اختلافا كليا عن مجتمعاتهم، مما أدى الى إخفاق مثل هذه التجارب، وتصادمها مع الواقع وتعارضها معه.. وتكرار الأمر نفسه فـي بعض المجتمعات التي عملت وفقا للخط الرأسمالي لتجاهلها لخصوصية مجتمعاتها.
ويأتي إخفاق مثل هؤلاء كونهم لم يحالوا أن يخضعوا مثل هذه النظريات للواقع، بل حاولوا إخضاع الواقع وتكييفه وفقا لمنطوق هذه النظريات بشكل قسري متجاهلين كل ما يجود به التراث من نظم وأنماط وأعراف اجتماعية، بغض النظر عن مضمونها السلبي أو الايجابي.
وحاليا نجد أنفسنا أمام مفاهيم ونظريات جديدة ظهرت فـي العقد الأخير من القرن الماضي، كالعولمة بكل مفهوما تها وتفرعاتها المختلفة، بوضعها لتصورات جديدة لشكل النظام الاقتصادي والثقافـي والإعلامي والسياسي الذي يخدم أفرادا معينين فـي المركز الرأسمالي، وعلينا "فرضيا" كشعوب وأفراد التعاطي مع هذا النظام كاملا فـي الوقت الذي نجد أن واقعنا الاجتماعي والثقافـي والاقتصادي يختلف مع معطيات النظام العالمي الجديد كما يطلق عليه.
فما الواجب علينا إذا؟. هل نرفض التعامل مع هذه المتغيرات؟ أم نتعامل معها؟ وكيف؟.
فـي اعتقادنا أن الخروج من هذه الدائرة لا يخدم مجتمعاتنا. وكذا الاندماج فـي هذه الدائرة لا يخدم مجتمعاتنا أيضا، وذلك لوجود خصوصية لا يمكن إهمالها أو تجاهلها، وهي الخصوصية الثقافـية، المتمثلة فـي العادات والتقاليد والأعراف التي من خلالها يمكننا اختيار ما يناسبنا ويلائم مجتمعاتنا. فلا يلغي هويتنا وشخصيتنا، وحتى نتفادى خلق بلبلة داخل مجتمعاتنا نتيجة لهدم البناء الاجتماعي والثقافـي والاقتصادي القائم، من غير أن نعمل على إقامة بناء جديد يلائم المجتمع ويحافظ عليه ويعمل على تحاشي انهيار المجتمع ونظمه المختلفة.
لذلك فان تطوير المجتمعات وتقدمها لا يأتي من خلال القوالب النظرية الجاهزة، وإنما يكون من خلال تطوير بنية المجتمع ذاته. وعن طريق البحث فـي المضامين الثقافـية والعمل على تطوير بعضها والاستفادة منها، ولاسيما أنها نتاج لتراكم خبرات إنسانية مرتبطة بالمجتمع نفسه، عبر أزمنه طويلة كالعلاجات الشعبية "مثلا" التي تعد جزءا أساسيا من ثقافة المجتمع اليمني، ومن ثقافة أي مجتمع من المجتمعات وخصوصا أن بعض المجتمعات سبق لها أن تعاملت مع موروثها فـي هذا الجانب واستفادت منه فـي دفع الأمراض كالصين، عندما اتجهت بها ثورتها الثقافـية الى موروثاتها العلاجي للبحث عما يمكن الاستفادة منه، إذ قامت بتطوير بعض الأساليب والطرق العلاجية التقليدية وفقا لأسس الطب الحديث. وحاولت تعميم بعض تجابها فـي مجتمعات أخرى، فما المانع لدينا إذا من الاستفادة من تراثنا فـي مجال العلاجات الشعبية أو على الأقل اختيار بعض الأساليب والعمل على تنقيتها من الشوائب العالقة بها عن طريق عقد دورات تدريبية للمعالجين، ولا سيما أن وجود العلاج الشعبي والتقليدي لم يكن مجرد صدفة من الصدف، أو مجرد وجود مادي نتيجة لتفاعل الطبيعة، وضرورة من ضرورات الحياة والوجود الإنساني، وجزءا من أسباب وعوامل المحافظة على بقاء الإنسان على هذه الأرض، على اعتبار أن الطبيعة منتجة لبعض الأمراض، ومقابل هذا الإنتاج ظهر رد فعل معاكس، تمثل فـي البحث عن وسائل الشفاء، فكانت كل مشكلة تواجه الأفراد أو تهدد كيانهم الداخلي تدفعهم الى البحث عن وسائل حماية من هذا التهديد.. وبالقدر الذي مثلت الطبيعة مصدرا للأمراض فإن فـيها مصدرا من مصادر الشفاء. ولما كانت الثقافة الشعبية من أهم الأنماط الإجتماعية وأكثرها احتضانا لفلكلور الشعوب فق رأينا أن تكون الثقافة الشعبية متغيرا أساستا "متغير مستقل" فـي موضوعنا هذا ، كونها تعطي الأفراد قدرة على تفسير الأمراض ومسبباتها، كما تمنح المعالج إمكانات واسعة وغير محددة فـي تفسير الأسباب وكذا التفنن فـي طرق العلاج، كما اعتبر المرض وأسلوب العلاج " متغير تابع" بهدف التعرف على أساليب مقاومة المرض.
وإذا كان التطور والتقدم العلمي ــ والطبي على وجه الخصوص الذي يشهده العالم اليوم ـــ يعد تطورا ايجابيا فـي سبيل القضاء على المرض ورفع مستوى صحة الإنسان، إلاّ أنه بالمقابل لا يمثل أهمية بالنسبة لما يحمله الإنسان من مفاهيم وقيم ومعتقدات خاصة ببعض الأمراض والعلاج، كون التطور لم يشمل جميع الأفراد على هذا الكوكب وإنما يرتبط دوما بأفراد معنيين فـي إطار المجتمع الواحد، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن عملية التطور لم تتم، لوجود بعض القصور فـي علاج المرض بالطرق الحديثة مما يجعله مبرراً للرجوع الى أساليب العلاج التقليدي ... لذلك فمن غير المتوقع ترك التعامل مع الأساليب الشعبية والتقليدية فـي علاج المرض على الفهم الشعبي للمرض وهو الأمر المرتبط بالثقافة الشعبية ومضامينها المختلفة الذي يعد أكثر صعوبة.
وإن كنت فـي مواقع شتى من هذا الموضوع قد أشرت الى ايجابية بعض أساليب العلاج الشعبي والتقليدي فإنني لا أقصد بذلك الدعوة الى ترك الأساليب العلمية فـي العلاج والعودة الى تلك الممارسات التقليدية وإنما قصدت الى دعوة الآخرين للتعرف على بعض القضايا والأساليب العلاجية الشعبية التي يضع بعض الأفراد ممن يتعصبون للعلاج الحديث بيننا وبينها حجابا فـي الوقت الذي نجد من الممارسين لها من يتعامل معها بوعي مشوه وبتفسيرات خاطئة .. لكن المعتقد بهذه الأساليب الشعبية كالمنكر لها من حيث التعصب الذي لا يقره المنهج العلمي .. سواءً أكان مع الموروث الخاص بطرق العلاج أو ضده .. وفـي كلا الحالتين نحن بحاجة لإماطة اللثام عن العديد من تلك الأساليب وإيجاد تفسيرات علمية لها تثبت سلامتها أو تنفـيها، حتى لا يظل نصدر أحكاما جزافـية .. أما مسألة اقتناع بعض الفئات الاجتماعية بوجود بعض الظواهر "العين مثلا" أو حقيقة وجود "السحر" فإنما هو أمر يعود الى تعود بعض الشرائح الاجتماعية على نوع معين من التفكير والنظر الى الأشياء بطريقة تقليدية تلقائية، فالذي تعود أن ينظر الى الأمور بهذه الطريقة التلقائية يختلف عن الذي نظر إليها بالتجربة والمعرفة العلمية التي من خلالها توصل الى معرفة كثير من الحقائق، يصبح من الصعب عليه إقناع الآخرين بما توصل إليه .. لكن طبيعة البحث العلمي تدعونا الى التجرد ووضع التساؤلات عن هذه الأساليب ومحاولة البحث عن إجابات علمية لها .. تمكننا من التوصل الى توصيف علمي لهذه الأساليب يثبت بعضها أو كلها أو ينفـيها.