الا يكفي هذا الانحدار لإنقاذ جامعة صنعاء؟!!!

الأربعاء، 27 أكتوبر 2010

11ــ التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا




أ.د/ عبد الله مُـعـمــر*

amh.171@hotmail.com

أولا: المقــــدمــة.. لماذا؟؟

لكتاب ابن خلدون (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)، المكون من سبعة أجزاء، مقدمة تعد الجزء الثامن. و عرف بالمقدمة لما أطلق ابن خلدون عليه فيما كتبه عن نفسه (التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا)، ولما كرره لكلمة المقدمة في متن كتاب العبر أكثر من مرة.

غير أن حاجي خليفة في موسوعته (الموسوعة الصنفة) ثبتها بإسم ( مقدمة ابن خلدون ) في العام 1835م، ثم أثبت هذا الاسم بعد ذلك في كل المطبوعات.

وعرفت المقدمة في تاريخنا الحديث عن طريق اختيار فصول منها، اذ سبق سلفستردي العام 1806م، وان قام بنشر فصلين عن الملك والفاطميون، وكذا الفرنسيون هامار، ودي تاس، وفريتاج، والذين قاموا بنشر مقتطفات من فصول المقدمة العام 1822م، وفي العام 1825م قام الفرنسي شولتز، بنشر مقتطفات منها، بعنوان (مقدمة في علم التاريخ)، وكذا السوري صبحي المحمصاني، في العام 1932م، أعد ونشر الفصول الاقتصادية في المقدمة، ثم نشر شارل عيسوي (مصري) في كتابه فلسفة تاريخ العرب، مختارات من مقدمة ابن خلدون في تونس، العام 1950م، بالإضافة إلى ما نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب، عام 1998م، بعنوان المختارات من مقدمة ابن خلدون، أعدها للنشر الدكتور سمير سرحان، والدكتور محمد عناني.

و في اليمن سبق للكاتب وأن اقتطف من مقدمة ابن خلدون عدة فصول مختارة، قسمها إلى خمسة محاور، سبق نشرها باسم (شروط الرئاسة والملك عند ابن خلدون) عام 2009م، نعتقد أنها تحدد الملامح العامة لمكونات فكر ابن خلدون، في العصبية والدولة والملك والبداوة والحضر والرئاسة، من خلال المحاور الآتية:

أولا: مدخل عام .. ويشتمل على السيرة الذاتية، وتحديد معني ومفهوم علم العمران البشري (الاجتماع الإنساني)، وهي التسمية الأدق علميا في تسمية علم الاجتماع، كما أطلقها ابن خلدون على علمه الجديد، بصورة جازمة، وبما لا يدع مجالا للشك، بأن ابن خلدون كان أول من عرف هذا العلم، بالعمران البشرى، أو الاجتماع الإنساني. وما ينتج عن هذا من تفاعل إنساني بين البشر قبل غيره من العلماء (سان سيمون، أوجست كونت). إلا أن ابن خلدون سبق عصره. فكان علمه خارج دائرة الزمان، الأمر الذي لم يدع مجالا لفهم هذا العلم والتفاعل معه.

أما المحور الثاني: يتضمن البداوة والعوامل المؤدية إلى انتقال البداوة إلى الحضر، باعتبار أن البداوة أساس التطور البشري، أو المرحلة الأولى للاجتماع الإنساني المنظم. وهي أعلاء من مرحلة التوحش البشرى.

ويتضمن المحور الثالث: رأى ابن خلدون في الرئاسة، وشروط توليها، كونها من عوامل الانتقال من البداوة إلى الحضر والتي تقوم على العصبية.

لذا كان المحور الرابع عن العصبية، كونها الأساس الذي يقوم عليها العمران البشري، أو الاجتماع الإنساني.

أما المحور الخامس: فقد أفرد للملك والدولة.. وما يؤثر على الملك والدولة من عوامل وأسباب القوة والضعف.

وهذه المحاور هي أساس الفكر الخلدوني، وبها يمكن أن تكون عند المطلع عليها فكرة متكاملة عن إسهامات ابن خلدون في مجال علم العمران أو الاجتماع الإنساني.



ثانيا: سيرته الذاتية:



1ــــ ميلاده:

عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن ابي بكر بن خلدون الحضرمي، ينتمي نسبه إلى وائل بن حجر من أقيال اليمن، وفد إلى الرسول عليه الصلاة والسلام لإعلان إسلامه، ضمن جموع اليمنيين الذين أسلموا على يد الرسول عليه الصلاة والسلام, فبسط رداءه وأجلسه عليه، ودعا له بقوله (اللهم بارك في وائل بن حجر، وولده وولد ولده إلى يوم القيامة).

ولد ابن خلدون في تونس يوم 27 مايو 1332م، كان جده خالد بن عثمان أول من وفد من أسرته إلى الأندلس، وصارت أسرته من الأسر التي لعبت دورا مهما في أشبيلية حتى خرجت من أيدي المسلمين.

وقبل حولي 84 سنة من ولادة ابن خلدون، وصلت أسرته إلى مدينة سبته عام 1248م، بعد سقوط مدينة إشبيلية، وانتزاعها من أيدي المسلمين، فصارت أسرته ذات شأن في بلاد المغرب العربي، ومن الأسر التي ساهمت في العمل السياسي آنذاك. فقد كان جده (أبي بكر) رئيسا لمالية الخليفة المستنصر أبي إسحق الحفصي، وجده محمد بن أبي بكر حاجبا خاصا للأمير أبي فارس حاكم بجاية.

إلاّ أن أباه (محمد) ترك أعمال الدولة إلى العلم والتحصيل العلمي، والذي توفي بينما لا يزال عبد الرحمن في سن صغيرة جراء انتشار وباء الطاعون في بلاد المغرب العربي (تونس)، والذي قضى على العديد من العلماء، ومن لم يدركه الموت ترك تونس راحلا عنها فرارا من الموت.



2ـــ تحصيله العلمي:

أ- تلقي تعليمه الأول بإشراف أبيه، الذي كان من فقهاء المالكية، ولغويا بارعا، ودارسا مجيدا لكل من المنطق والفلسفة، وكان يعتبر من أشهر علماء عصره بتونس، مما مكن ابن خلدون من الإفادة من أبيه، ومن العديد من أساتذة العلم الذين كانوا يترددون على دار أبيه، في تلك المرحلة بمعرفة المنطق والفلسفة، والبلاغة، واللغة، والرياضيات.

وكان لمستوى والده العلمي والثقافي دورٌ هامٌ في تحصيله والرفع من شأنه العلمي، بل وسبب في تنوع وتعدد مصادر تحصيله، إذ شهد مجالس العلم والأدب في بيت والده واستمع إلى دروس مشاهير العلم، واللغة، وعلماء الشريعة، والدين، وعلى يد والده درس أصول المذهب المالكي، وقد ساعد ثراء أسرته على تميز مستوى التحصيل لديه وتعدده وتنوعه.

بدأ في تعلم اللغة، وحفظ القرآن، وقراءاته السبع‘ والكثير من الأحاديث النبوية، والشعر.

وقد مثلت سيطرة أبي الحسن سلطان المريني على تونس عام 1347م، فرصة للتنوع الثقافي، فكان لتشجيعه غير المحدود لرجال العلم والأدب أكبر الأثر في انتهال ابن خلدون وتحصيله العلمي، بوفادة العدد الكبير منهم إلى تونس من مختلف مدن المغرب العربي (تلمسان، فارس، وقرطبة). ويعد أبو عبد الله الآبلي من أهم من أسهم في تكوينه وأثر في ثقافته وتحصيله العلمي.



ب- أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي:

أخذ عنه، سماعا وإجازة، وكتاب الموطأ للإمام مالك، والأمهات الست، والسير لابن إسحق، وكتبا أخرى غيرها، كما استطاع أن يطلع على العديد من الكتب التي كانت في خزانته، في الفقه واللغة العربية، والأدب، وسائر الفنون.



جـ ــ أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي:

من أولئك الذين عادت أسرهم إلى المغرب العربي بعد سقوط إشبيلية، واستقر به الحال في تلمسان. والتي كانت من أشهر المدن في المعرفة العلمية والرياضيات والمنطق أنذاك.

انتهل الأِبلي العلم والمعرفة من مصادر متعددة (منطق، فلسفة، رياضيات، فلك، علوم دينية وشرعية، وعلى يد أبرز علماء عصره كابن زيدون، والإمام التلمساني، وأبي العباس ابن البناء، وهو الأمر الذي أفاد منه ابن خلدون فيما بعد بتتلمذه على يد الأِبلي حتى أصبح معلمه الأول، وظل يتردد عليه على مدى ست سنوات أثناء إقامته في تونس 1347- 1352م، والذي لم يخرج منها بالرغم من انتشار الطاعون ورحيل العديد من العلماء منها ممن نجوا من الموت.

وكان الأِبلي أحد الذين قدموا مع السلطان أبي الحسن المريني إلى تونس بعد احتلالها، مما مكن ابن خلدون من التردد على مجالسة والإفادة منه. والذي كان له دورٌ هامٌ في تحصيله لعلوم الفلسفة والمنطق وطريقة التفكير العلمي والعقلي، وتعرفه على كثير من آراء فلسفة أرسطو وسقراط وأفلاطون، وكذا فلسفة الكندي وابن رشد وابن سيناء، والرازي، ونصير الدين الطوسي.

وعلى يده تعلم الكتابة المنهجية وأسلوب البحث العلمي، فكتب أبحاثا عدة بإشرافه أثناء مرحلة التحصيل منها: المحصل في أصول الدين، وكذا فلسفة ابن رشد، وغيرها، بينما كان يافعا.



د - ابن الخطيب: وقد ربطته بابن خلدون علاقة صداقة وطيدة ومتميزة، وكان ابن الخطيب شاعرا ورياضيا، وصاحب فكر ماديّ متحررٍ، وذا نزعة فكرية تحررية، استفاد منه بن خلدون في تكوين الأصول المنهجية والعلمية التي استفاد منها من خلال اللقاءات والمراسلات المتبادلة بينهما.

كما استفاد منه مهنيا بتقديمه للسلطان محمد الخامس سلطان غرناطة، حتى أصبح سفيرا له في أشبيلية وضمن حاشيته.

ونظرا لتميزه ونبوغه الفكري إلى حد تجاوز عصره أعدم نهاية المطاف بتهمة الإلحاد، بعد فراره من غرناطة إلى فاس. على اثر توجيهه خطاب شديد اللهجة ينتقد فيه الأعمال السياسية للسلطان محمد الخامس، مما أغضب السلطان، فطلب من السلطان أبي العباس بالقبض عليه، وحوكم بتهمة الإلحاد.



ثالثا: الأعمال والمهام السياسية في المغرب :

1ـ برحيل (الأِبلي) عن تونس ووفاه والده محمد، مثل ذلك منعطفا مهماً في حياته، بتحمله مسئوليات خارج إطار التحصيل العلمي، فشغل أول مهمة رسمية في إطار الدولة، إذ عمل بقلم الكتاب بالمحكمة، ثم كبير أمناء الديوان السلطاني بتونس.

2ـ وفي غفلة من العمل المهني الذي التحق بها بعد موت والده وخروج الأٍبلي من تونس، والذي كان تحت ضغط أخيه الأكبر (محمد) قرر العودة إلى العلم والتحصيل... ولكن في مدينة فاس.

وفي فاس تمكن من مجالسة علماء عصره ومناظرتهم، مما رفع من شأنه بينهم حتى ضم إلى حاشية السلطان، ثم تقلد مهمة سكرتير خاص بسلطان فاس. لكن ذلك لم يدم طويلا، بل أدى به إلى السجن لما يقارب العامين (21 شهر) ليخرج منه في عام 1358م، بعد وفاة سلطان فاس أبي عنان.

3ــ بوفاة سلطان فاس أبي عنان، وجد ابن خلدون نفسه داخل صراع بين ورثة أبي عنان على الملك، فما كان منه إلاّ أنه انظم إلى ذاك الصراع لمدة ثلاث سنوات (1358- 1360م)، كمقاتل في الجيش إلى جانب السلطان محمد الخامس سلطان غرناطة.

ثم قلد بعدها كاتب السر والإنشاء للسلطان في فاس، وتولى خطة القضاء، لكن ما لبث أن غادر فاس لخلاف بينه وبين الوزير عمر بن عبد الله إلى غرناطة.

4ـ في عام 1362م، انظم في غرناطة إلى حاشية السلطان محمد الخامس، وما لبث أن عينه سفيرا في أشبيلية، وأسندت إليه توقيع معاهدة السلام، فأداها بنجاح، فما كان من ملك أشبيلية (بيدرو)، إلاّ أن عرض عليه الانضمام إلى خدمته مقابل إعادة أملاك أسرته في اشبيلية، فرفض العرض.

5- في عام 1365م، انتقل بعد عودته من أشبيلية إلى (بجاية) بناءاً على طلب من حاكمها ابن عبد الله محمد لخلاف بينه وبين سلطان غرناطة لوشاية من صديقه ابن الخطيب والذي شعر بالخطر من علاقة ابن خلدون المتميزة بالسلطان. باعتقاده أنه سيحل محله عند السلطان.

وفي بجاية احتل مكانة متميزة لدى السلطان أبي عبد الله، فعين رئيسا لجهاز الدولة، وقاد بنجاح حملات قمع تمرد البدو الرحل، وأجبرهم على دفع الضرائب للدولة.

6- استولى أبو العباس الحفصي على إمارة بجاية بمقتل ابن عمه أمير بجاية أبي عبد الله, ضمن صراعهما على السلطة، وكان ابن خلدون داعما له في صراعه مع ابن عمه، وجمع أموالاً كثيرة دعما للجيش من المواليين والبربر، فما كان من ابن خلدون إلاّ أنه التحق بحاشية أبي العباس بعد انتصاره لكن تحذير أبي العباس من نفوذ ابن خلدون من قبل بعض الساسة وكثرة الدسائس ضده جعله يرحل عنها. فما كان من أبي العباس إلاّ أن صادر أملاك أسرته في بجاية وأملاك أخيه المؤرخ يحي بن خلدون، الذي كتب تاريخ بني عبد الوديد ملوك تلمسان.

7- لكن التآمر وعدم الاستقرار السياسي في بجاية دفع ابن خلدون إلى الفرار إلى (بسكرة) عن طريق قبيلة (الدواويد) ، فانغمس مرة أخرى في بسكرة وسط الدسائس والمؤامرات السياسية.

8- فما كان من سلطان تلمسان المعروف (أبي حمو) إلاّ أن دخل في صراع مع أبي العباس على بجاية مما تطلب الدعم من قبائل الدواويد لأبي حمو، فكلف ابن خلدون القيام بهذه المهمة مقابل أن يكون حاجبا له فرشح أخيه يحي بن خلدون لمنصب الحاجب، وقام هو بإقناع القبائل بالوقوف إلى جانب سلطان تلمسان (أبي حمو) ، لما تربطه من علاقة بزعيم قبيلة الدواويد يعقوب بن على.

9- لكن ظروف الحرب بين أبي حمو سلطان تلمسان بل توسعت أكثر لتدور بينه وبين السلطان عبد العزيز المريني حاكم فاس، وبين أبي العباس لم تمكنه من الاستيلاء على بجاية، وامتدت لأكثر من مكان في بلاد المغرب العربي، فقدم العزم على السفر إلى غرناطة للتفرغ للعلم والتحصيل العلمي، لكن السلطان عبد العزيز اعتقله ليمنعه من السفر، ظنا منه أنه يحمل شيئاً ما من أبي حمو للسلطان محمد الخامس.

وبخروج السلطان أبي حمو من تلمسان مهزوما إلى الصحراء كلف ابن خلدون من قبل السلطان عبدالعزيز بإصلاح ذات البين مع قبيلة الدواويد والرياحين والذي نجح فيها، فعين مندوبا للسلطان في بسكرة لاستمالة أهلها إلى جانب السلطان المرينى عبد العزيز.

10- مابين عام 1370- 1372م، كلف من قبل السلطان عبد العزيز بعدة مهام حربية لاسيما قيادته لجيش قبيلة الرياحين، مما أزعج زعماءها وبعض من حاشية الملك فوشوا به لدى السلطان عبد العزيز حتى تخلص منه. بينما كان يؤدي مهام إصلاح العلاقة بينه وبين أهل بسكرة فاتجه إلى تلمسان، لكن السلطان عبد العزيز توفي ودخل أبو حمو تلمسان مرة ثانية، مما أخاف ابن خلدون فقرر الهرب من تلمسان عبر الصحراء، لكنه تاه في الصحراء مع مرافقيه، لينقذه بعض البدو الرحل من الموت.

11- استقر في فاس وعين عضوا في مجلس الحكم بها. وبوفاة السلطان عبد العزيز ورث الحكم بعده كل من أبي العباس المريني والأمير عبد الرحمن لكن الخلاف الدائر بين سلطان فاس أبي العباس المريني وأمير مراكش عبد الرحمن ألقى بظلاله على ابن خلدون، فما كان منه إلاّ أن خرج هاربا إلى غرناطة بعد أن فشل في إنقاذ صديقه القديم ومعلمه ابن الخطيب من الإعدام بتهمة الإلحاد بدخول جموع من المحتجين إلى السجن وقتله داخل السجن.

12- في غرناطة تم التخلص من ابن خلدون ثانية بطرده إلى إقليم تلمسان، مما جعل شيخ قبائل الدواويد محمد بن عريف يتدخل عند السلطان أبي حمو لينقذه من الموت، فاستقر به الحال في رباط ابن مدين قرب تلمسان.

13- احتاجه السلطان أبي حمو للتوسط مع قبيلة الدواويد لكنه وصل إلى بني عريف فقرر عدم إكمال المهمة، وأرسل خطابا للسلطان بذلك يعتذر منه عن عدم إتمام المهمة.

14- في عام 1375م، اعتكف في قلعة ابن سلامة، لدى بني عريف لمدة أربعة أعوام، وشرع في كتابة (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن جاورهم من ذوي السلطان الأكبر)، لكنه عندما وصل إلى أخبار زناتة والبربر احتاج إلى المراجع العلمية لتدعيم أفكاره، فقرر العودة إلى الأمصار- كما ذكر في سيرته- فقصد تونس لتوفير المراجع.

15- عاد إلى تونس بعد أن اعتذر للسلطان أبي العباس الحفصى عما كان قد بدر منه من مناصرته للسلطان أبي حمو ضده ويطلب العودة إلى طاعته‘ فصفح عنه، وقدم له العطاء وتفرغ لإكمال كتابة العبر في العام 1381م، بينما كان يلقي دروسه على مريديه ويروج لفكره الجديد الذي استقاه من كتابة التاريخ، والواقع الذي كان يعيشه، وقف ضده كثير من أصحاب الاتجاه التقليدي في العلم، وعلى رأسهم إمام الجامع ومفتي تونس الأكبر آنذاك محمد بن عرفة، الذي رأى في ابن خلدون منافسا علميا ومجددا في العلم، في الوقت الذي كان هو رأس السلطة الدينية التقليدية في تونس.



رابعا: ابن خلدون في القاهرة:

* غادر تونس في 25 أكتوبر1382م، عن طريق البحر مع سفينة تجارية من الإسكندرية، بعد أن اشتد الصراع بينه وبين دعاة الاتجاه التقليدي في الفكر، متذرعا للسلطان بأداء فريضة الحج، مما جعله يوافق على سفره.

ويبدو أن الصراع وطبيعته جعل صورة ابن الخطيب وإعدامه بتهمة الإلحاد في فاس تبرز إلى مخيلته. الأمر الذي أشعره بالخطر مما يحاك له في السر، وفعلا كان إحساسه صادقا، فقد كان يدبر له في السر الأمر ذاته. ولولا رحيله عن تونس لوقع له ما وقع لابن الخطيب. لاسيما وأن على رأس معارضيه ابن عرفة، وعدد من رجال السياسة في حاشية السلطان.

* في نوفمبر من عام 1383م وصل ابن خلدون إلى القاهرة، فبدأ في إلقاء دروسه على طلاب الأزهر في كل من المذهب المالكي، ورؤيته النظرية لما يدعو إليه من علم العمران البشري.

* في عام 1384م، وبعد مقابلته للسلطان تقي الدين برقوق، الذي أصبح فيما بعد صديقا شخصيا ومستشارا له، عين مديرا لمدرسة القمحية في مصر، ومدرسا للفقه المالكي، ومنها نادي ابن خلدون بتجديد العلوم وضرورة الأخذ بها وتطوير العلوم، من خلال درسه الأول في مدرسة القمحية، والذي كان مخصصا لدور العلم والعلماء، وأهميته في الدولة.

ثم عين قاضي قضاة المالكية، لكنه وجد جهاز القضاء المالكي وأوقافه في حالة من التردي والفساد الذي ضرب جذوره في أوقاف المذهب المالكي. مما جمع المعارضين ضده فعزل من منصبه بعد أربع سنوات.

* بعد وصوله إلى مصر تم احتجاز أسرته في تونس، لكن توسط السلطان برقوق، أدى إلى الإفراج عنها ومغادرتها تونس إلى مصر، إلاّ أن السفينة غرقت في البحر بكامل أسرته.

* ثم تقلد نفس المنصب ست مرات بعد ذلك لكنه عزل أيضا نتيجة للدسائس التي كانت تحاك ضده من معارضيه. كما كانوا يتهمونه بالقسوة والشدة في تعامله بتنفيذ أوامره وفي محاولة إصلاح الفساد في أوقاف المذهب المالكي. بل وصف بأنه جاهل في الشريعة، ويمارس أسلوبا فاسدا في الحياة.

* أما المقدمة وكتاب العبر فقد وقف منها رجال الفكر والدين أنذاك، موقفا معارضا وعدائيا، وأن ما ورد في المقدمة ما هو إلا أسلوب بلاغي، وتلاعب بالألفاظ، وأن البلاغة تزينها بزخارف، فترى ما ليس حسناً بأنه حسن.

* في مصر حاول ابن خلدون أن ينقح بعض من كتاباته لكتاب العبر، واستكمال بقية كتابة المقدمة، وسيرته الذاتية، وتاريخ التتار، وتاريخ الدول الإسلامية في المشرق وفي الأندلس، وتاريخ الدول القديمة والدول الأعجمية.

* في مصر لم يعش حالة من الاستقرار بل ظل يعيش في حالة من المعاناة والخلافات مع كثير من خصومه السياسيين والمفكرين، إذ نفي إلى خارج القاهرة أثناء عزل السلطان برقوق مؤقتا من الحكم، وعاد بعودته إلى عرش مصر، ثم أقام بالفيوم بين آن وأخر كلما اشتد خلافه مع الغير، كما ظلت خصومته في المغرب العربي تلاحقه إلى مصر، اذ يشير ابن عرفة عند معرفته بتولي ابن خلدون القضاء، بالقول ( كنا نعد خطة القضاء أعظم المناصب، فلما بلغت أن ابن خلدون ولي القضاء عددناها بالضد من ذلك).



خامسا: من صفـاتـــــه:

ويصف ابن حجر العسقلاني ابن خلدون وحديثه في الأزهر (بأنه كان لسانا فصيحا، حسن الترسل، وسط النظم، مع معرفة تامة بالأمور، خصوصا متعلقات المملكة ـ أي الحكم). وهذا تأكيد على أنه كان عالما متمكنا في سرد حججه لتأكيد نظريته في الملك والعصبية.

* في ذات الوقت نجد تقي الدين المقريزي يثني على ابن خلدون، فيصفه دوما بلقب شيخنا، والعالم العلامة، وشيخ الفقهاء، ويصف المقدمة بأنها (لم يعلم مثلها، وأنه لعزيز أن ينال مجتهد منالها، إذ هي زبدة المعارف والعلوم، وبهجة العقول السليمة والفهوم، توقف على كنه الأشياء، وتعرف حقيقة الحوادث والأنباء، وتعبر عن حال الوجود، وتنبئ عن أصل كل موجود، بلفظ أبهى من الدر النظيم، وآلف من الماء مر به النسيم).

والمعروف أن تقي الدين المقريزي داوم على التعلم من ابن خلدون، ومجالسته بصورة دائمة.

* وكان قبل ذلك قد وصفه لسان الدين ابن الخطيب بالقول ( رجل فاضل، حسن الخلق، جم الفضائل، باهر الخصل، رفيع القدر، ظاهر الحياء، أصيل المجد، وقور المجلس، خاصي الزي، عالي الهمة، عزوف عن الضيم، صعب المقاد، قوى الجأش، طامح لقنن الرئاسة، سديد البحث، كثير الحفظ،، صحيح التصور، بارع الحظ، مغري بالتجلة، جواد الكلف، حسن العشرة، مبذل المشاركة، عاكف على رعي خصال الأصالة، مفخر من مفاخر التخوم المغربية).



سادسا: ما قبل الغروب ونهاية المطاف :

بوفاة السلطان تقي الدين برقوق عام 1399م، تولى ابنه حكم مصر، والذي قربه منه، كما كان أبيه، حتى إنه رافقه إلى دمشق أثناء احتلال الشام من قبل التتار، وبحصارها حاول ابن خلدون الفرار منها فأسر من قبل التتار في فبراير 1401م.

وفي الأسر تقابل ابن خلدون مع تيمور لنك، فكان لقاءاً علميا وفكريا، إذ أطلع ابن خلدون تيمور لنك على تاريخ المنطقة والقبائل والشعوب ونقل إليه من المعارف العلمية ما جعل منه شخصية غير اعتيادية في نظر تيمور لنك، وقد استغل كلٌ منهما الآخر، اذ طلب ابن خلدون الإفراج عن الأسرى لديه. فما كان من تيمور لنك إلاّ أن طلب من ابن خلدون أن يكب له عن تاريخ المغرب والمسافات والأبعاد بين المدن. مما شكل عند تيمور لنك خارطة جغرافية وتاريخية متكاملة عن المغرب العربي. فأمر بنسخ الكتاب باللغة التركية للإفادة منه.

* فك أسر ابن خلدون فعاد إلى القاهرة ليظل فيها حتى عام 1406م من يوم 17من شهر مارس، الذي أسدل فيه الستار عن حياة عملاق من عمالقة الفكر العربي في تاريخه القديم والمعاصر والمستقبل، ظهر في فترة كان الجميع فيها أقزاماً لا تتجاوز قامة أيا منهم بضع سنتمترات.

* بوفاة ابن خلدون أسدل الستار عن تاريخ أمة ودفن معه في مقبرة الصوفية في باب النصر بمدينة القاهرة، فكرا وعلما تجاوز الزمن الذي أنتج فيه، ليظل مدفونا مع صاحبه تحت التراب أكثر من 452عام بصدور أول طبعة في باريس من قبل المستشرقين الفرنسيين.

فصاحب الفكر لم يستطع معاصروه فهمه ولم تكن لديهم المهارات العلمية لاستيعابه، ولأن الفكر المنتج من صاحبه كان متجاوزاً للزمان الذي أنتج فيه، فما كان من معاصريه، سواءاً بالمشرق أو بالمغرب العربي، إلاّ أن كانوا أشد قسوة عليه من الزمن ذاته، الذي حرمه مع القدر من جميع أفراد أسرته غرقا في البحر، بعد أن كان قد حرم جده الأكبر من وطنه حضرموت، وحرم جده الثاني (ابابكر) من نعمة الأندلس بكل مغريات وملذات الحياة فيها وشرد مع بقية المسلمين إلى المغرب العربي، والذي كان يمر بمرحلة سياسية مضطربة وصراعات دائمة ما بين قاتل ومقتول، ومنتصر ومهزوم، ليعيش تلك الحياة التي صنعها الأقزام. عملاقا من العمالقة في كل الأزمان، ينظر إليهم ويفكر في أفعالهم ويتبصر في مواقفهم ليحلل ويكتب برؤية واقعية تحليلية حتى جعل ما كتب عما كتبه يتجاوز حجم ما كتبه بمئات المرات.

ابن خلدون في مقدمته لكتاب العبر حير العديد ممن كتبوا حولها وعن فكر ابن خلدون في الشرق والغرب، حتى إن بعضاً من الباحثين أسقط فكره على أغلب النظريات العلمية المعاصرة في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ فكان أكثر تجديدا من هذه النظريات.

وترجع عملية الاهتمام بالمقدمة في العصر الحاضر إلى اهتمام الفرنسيين إلى العام 1847م، عندما أمرت وزارة الدفاع الفرنسية‘ بنشر وترجمة الأجزاء الخاصة بتاريخ المغرب العربي، ثم أمر وزير الحربية الفرنسي بنقل مخطوط من القسطنطينية عرفت بمخطوط كاترمير، مع أن أقدم تعريف يالمقدمة يرجع إلى المستشرق الفرنسي سلفستردي ساس في العام 1806م، الذي بدأ بترجمة ونشر فصلين عن الملك والسلطان، والفاطميين.

وصدرت الطبعة العربية عام 1875م، عن مطابع بولاق بمصر، بينما صدرت الطبعة الإيطالية في العام 1847م في فلورنسا.

وترجع أول دراسة علمية عن ابن خلدون من قبل المفكرين العرب لطه حسين الذي ناقش أطروحته للدكتوراه في جامعة السربون بفرنساء عن (الفلسفة الاجتماعية لابن خلدون) العام 1917م، وقام بترجمتها إلى العربية محمد عبد الله عنان عام 1925م، ثم أصدر أيضا كتابا عنه في العام 1932م، بعنوان ( ابن خلدون حياته وتراثه الفكري).

ومن الاجتماعيين العرب يعد الدكتور/ علي عبد الواحد وافي أول من راجع وحقق المقدمة وأشرف على نشرها عام 1952م.



أستاذ علم الاجتماع الخلدوني المشارك

كلية الآداب / جامعة صنعاء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق