دعوها دولة اتحادية متعددة الأقاليم , كما أرادها الله فإنها مأمورة، هكذا أراد الله لهذه البلاد أن تكون منذ بدء ظهور الدولة وبشكلها الجنيني المنظم.
فاليمن يمكن أن تكون الدولة القديمة الوحيدة في التاريخ القديم التي اتجه الناس فيها إلي أسلوب الإدارة الجزئية أو الإقليمية وعرف بنظام المخاليف وتراتب الاقيال والاذواء.
لقد أراد الله لهذه البلاد أن تكون كذلك قبل نزول دياناته, وإرسال رسله على عباده من البشر, وبالتالي فإن كل اتجاه مخالف لذلك النظام يصاب بالفشل دوما فنجاح أي إدارة في اليمن لا يتأتى الا من خلال الاعتراف بالآخر وقدرته على إدارة ذاته وبمعاييره الخاصة التي تنطلق من الخاص إلى العام وليس العكس.
فالعام يزيد من الهيمنة والسيطرة إلى الدرجة التي يلغي فيها الخاص, ويسخر من اجل العام او المركز, ومع اشتداد السيطرة من قبل العام (المركز) يتجه الخاص (الأطراف) نحو الإقليمية (الأقاليم) أو التمزق من جديد والميل لإعلان دويلات مستقلة وهما الخياران الماثلان أمامنا الآن, باشتداد السيطرة من قبل المركز (الدولة المركزية) في جعل الخيارين أمام المحافظات ويبرزان بوضوح في رفع شعار الدولة المدنية الديمقراطية بأقاليم متعددة ضماناً للمواطنة المتساوية, وضمانا لاستمرار الوطن الواحد دون تجزئة, ولا اقصد هنا شمال وجنوب, بل إني اذهب إلى ما هو ابعد من ذلك, فالشمال لا يمكن أن يظل شمالا كما كان ويقبل بالمركزية أو المركزية الاستبدادية, فالناس ضاقت ذرعا بهذا النوع من الحكومات والإدارات التي تصادر أبسط الحقوق الربانية, والإنسانية, والبشرية والدينية.
لكن الساحات أوجدت مع وجودها وعيا آخر لو استمررنا سنين وأعواماً نحاول بثه ما استطعنا وبكل ما لدينا من وسائل إعلام وخبرات وما تمكنا من الوصول اليه, بيد أن الساحات استطاعت العمل وبفترة وجيزة على ان توجد وعيا مغايرا توصل اليه الشباب بفضل ساحاتهم تلك, وفي حال مصادرته أو التآمر علية وعدم تحقيقه وتحت أي مبرر كان, حزبيا أو سياسيا أو لتحقيق مصالح ذاتية آنية و مستقبلية, فإن على الجميع أن يستعدوا لرد الفعل القادم من وسط بركان الشباب.
لقد أثبتت الدولة المركزية مؤخرا في اليمن فشلها الإداري والسياسي والتنموي ولم تتمكن خلال المائة السنة الماضية من تحقيق أي تقدم نحو الأمام. ففي المجال التنموي تعد اليمن مقبرة المساعدات ومن أفقر بلدان العالم التي لم تؤثر أو تظهر فيها أثر تلك المساعدات في الواقع, بحيث تحقق قفزة نوعية تتغير معها منظومة الفقر والتخلف والبطالة.
وفي المجال السياسي تعد اليمن من أكثر البلدان فشلا في سياستها الخارجية, فلم نتمكن من لعب أي دور إقليمي أو عربي واضح, وربما فشلنا الذريع في الملف الصومالي خير دليل على ذلك, في الوقت الذي تحقق فيه الحكومة التركية خطوات متقدمة في فترة وجيزة, ناهيك عن الدور في المنظومة الدولية, حتى حروبنا الخارجية تهزمنا فيها خفافيش الظلام وبسهولة أيضا.
لكن فشلنا الأكبر يأتي في إدارتنا الداخلية, فقد شرذمت اليمن إلى دويلات صغيرة تشبه قطع الحلوى بفعل عامل الاستبداد خلال المائة عام المنصرمة, كما أننا لم نتمكن من إقامة نسيج اجتماعي يعزز عمليات الانتماء للوطن اليمني لدى الأجيال منذ الاستقلال عن الحكومة التركية وحتى اليوم, لكننا بالمقابل جسدنا ونمينا ثقافة الاستبداد والاستحواذ والسيطرة الأسرية والفردية والقبلية والمناطقية الجغرافية, وحشدنا من اجل ذلك كل الطاقات والجهود الأدبية والعلمية والمنهجية والتربوية لتعزيز مثل تلك الثقافة واعتبرناها قيما ثابته, حتى أننا حاولنا أن نلبسها ثوب الوطنية, تحت مبرر الثوابت الوطنية التي لا تمس .. فأي ثوابت تلك التي تتنافى مع الحق الإنساني!! و أي ثوابت تلك التي تعطي الآخر الحق في مصادرة حقي كإنسان في العبادة والوجود والحياة, والقول والعمل !! بينما تتيح للآخر أن يعيث كما يريد؟ وأي ثوابت تلك التي تتيح للبعض نهب المال العام والأراضي وامتهان كرامة الآخر وإنسانيته ومصادرة حقوقه الربانية...؟.
لقد ارتكبنا أخطاء ثلاثة في سبيل تثبيت الدولة المركزية, وبأسلوب استبدادي محض, الأول: كان في محاولة الإمام يحيى بسط نفوذه على التراب اليمني, ولكن وفق منظور الدولة المركزية المستبدة وليس الدولة الراعية والحافظة لمصالح الوطن وأبنائه, ما جعل من بعض المناطق تنزع نحو رفض تلك العملية وتتجه نحو تأسيس إدارات ذاتية بعيدا عن سطوة المركز وسلطته ورفضا لمنظومة الاستبداد المركزي لدولة الإمام وذلك في الجزء الأكبر من الوطن, عرفت باسم الجنوب فيما بعد, وكان الخطأ الثاني بعد الوحدة اليمنية 1990م, والذي دخل فيها الناس بقلوب صافية ونية صادقة, وبمحاولة المركز فرض ثقافة وآلية الاستبداد المركزي والسيطرة المستبدة المندرجة تحت مفهوم إلغاء الآخر وعدم الاعتراف به, وها نحن نعيش مرحلة خطر تهدد الوطن بأكمله جراء تلك المنظومة .
لكن الخطأ الفرعي الذي يحمل من الأهمية مزيدا من التوقيت المبشر بالانفجار المستقبلي فيما لو أننا تعاملنا مع الأمر وفق منظومة قيم الاستبداد, وإلغاء الآخر, ما حدث بعد ثورة 26 سبتمبر من استحواذ وسيطرة مقابل تهميش البعض الآخر من أبناء اليمن لأسباب جغرافية, فيمكن لتكرار مثل هذه الآلية أن تنتج حربا أهلية أكبر تؤدي إلى بناء دويلات جديدة على التراب اليمني ما سيمثل لنا الخطأ القادم, والذي سيرافقه نوع آخر من رد الفعل, نوع جسد في بنية الوعي الثقافية حتى أصبح وعيا جمعيا لدى جميع أبناء الوطن اليمني... وهو الحق في المواطنة المتساوية للجميع وهو ما يتنافى كليا مع الدولة المركزية, حتى وان برر المروجون لها بتحقيق الدولة العادلة, والحداثة, ودولة القانون ... الخ, فالدولة المركزية دولة استبدادية لا تمنح حق المواطنة المتساوية لأفرادها مطلقا، بل على العكس تميل دوما إلى مصادرتها تحت مبررات عدة. وتحقيق العدل والحرية والحقوق والمواطنة والديمقراطية والوتيرة الأسرع في التنمية الاجتماعية والاقتصادية, كلها لا تتحقق بغير الدولة الاتحادية المتعددة الأقاليم, فدعوها اتحادية فإنها مأمورة.
* أستاذ علم الاجتماع / جامعة صنعاء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق