الا يكفي هذا الانحدار لإنقاذ جامعة صنعاء؟!!!

السبت، 19 يونيو 2010


الطــب الشعبــي

حقيقــة العـلاج .... وثقـافة المـرض






د/عبد اللـــــه مُعـمـــــــــر*
أولا
توجد العديد من الأمراض التي لا يتعامل فيها الطبيب مع عضو محدد في جسم الإنسان، بل يتم التعامل فيها مع مجموعة من المكونات اللاعضوية كالقيم، والعادات، والتقاليد، والثقافة الموروثة، والمكتسبة، وكذا المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية المؤثرة في حياة الفرد والمجتمع، والتي تنعكس بصورة سلبية على بعض الأفراد الذين لا يستطيعون التكيف مع محيطهم الاجتماعي، مما ينجم عنه حالة من الصراع القيمي بين ما هو موروث وما هو مكتسب من جهة أولى، وبين ما يرغب الفرد بأن يكون عليه من جهة أخرى. وهذا الصراع يؤثر على موقف الفرد من المرض وانتشاره وكذا العلاج وسرعة اختياره.
وبما أن الأمر يتعلق بمجموعة من صراعات القيم في ثقافة الفرد والمجتمع وكذا في حالة اللاتجانس الثقافي والاجتماعي والاقتصادي التي تعاني منها المجتمعات النامية ــ واليمن منها ـ فالمريض وجماعته المرجعية يكونون أمام خيارات علاجية توجهها قيمهم وثقافتهم، خاصة وان شكل العلاقة الأسرية تمكِّن كبير الأسرة من السيطرة وفرض آرائه وأفكاره على بقية أفراد الأسرة، ويكرس النظام التربوي والاجتماعي الثقة في آرائهم ومقترحاتهم، لأنَّ الفرد يكتسب اتجاهاته وأنماط تفكيره باحتكاكه بأفراد مجتمعة، وينقل عنهم اتجاهاتهم الأساسية عن طريق التطبيع الاجتماعي. لذلك إما أن يكون الطبُّ الحديث هو المختار، أو أنّ أحد الأساليب العلاجية التقليدية هو الملاذ، ويمكننا إدراك ذلك بجلاء إذا ما بحثنا في إطار المفاهيم الشعبية للمرض، خاصة وأنّ رؤية الثقافة الشعبية للمرض وأسبابه تختلف عن الرؤية الطبية الحديثة، ومثل هذه المواقف تؤدى إلى اضطراب الحالة النفسية للمرضى مما يدفعهم إلى التماس الخلاص من أي سبيل، فإذا افتقدوا المعرفة الصحيحة كان سبيلهم الوحيد هو اللجوء إلى العلاج والمعالجين التقليديين والشعبيين، وإنْ توفر قدر من المعرفة الطبية لمسببات المرض اتجهوا إلى الطب الحديث. وهو ما يُحدثُ تنافرا واضحا بين المنظورين. فالثقافة بكافة مضامينها ومفاهيمها تطرح تفسيرات تختلف اختلافا جزئيا أو كليا عن التفسير الطبي الحديث للمرض بإعادته إلى القوى الغيبية أو الممارسات المكتسبة من الخبرة، ويرجع ذلك إلى أن التفسيرات الشعبية تتفق إلى حدِّ كبير مع تصورات الأفراد المسبقة لمسببات المرض مما يعني أن ذلك تحصيل حاصلٍ لأفكار مسبقة وتصورات ذهنية موجودة أصلا. نظرا لسيطرة مفهوم قدرة العلاج الشعبي والممارس لهذا النوع من العلاج على التعامل مع القوى الغيبية والسيطرة عليها. ولاسيما ان التراث الشعبي يزخر بهذه الأساليب. مما يدل على رفض لبعض أساليب العلاج الطبي الحديث، كون النظرة الشعبية لمفهوم المرض والعلاج تكشف عن العديد من التفسيرات التي تزخر بها المجتمعات. فمنها ما ترجع أسباب المرض إلى عوامل مادية وأخرى غيبية، وتنظر الثقافة في بعض الجماعات المحلية إلى المرض على أنّه انتقام إلهي و بالتالي يتسم العلاج بالطابع السحري. مما يعني النظر إلى العلاج الحديث باعتباره غير مفيد و هذه التفسيرات تنعكس على سلوك أفراد المجتمع الذي تسود فيه مثل هذه المعتقدات عند تلمسهم الشفاء من المرض تلك المعتقدات التي اكتسبها الفرد من مجتمعه منذ طفولته عن طريق التنشئة الاجتماعية وقيم المجتمع أو الجماعة التي يعيش في ظلها الفرد وكذا الخبرة الشخصية، فالمعتقدات السائدة عن مرض معين هي التي تحدد السبيل التي سيسلكها الفرد الذي يصاب بالمرض للتخلص من مرضه. وهذا يتوقف على تأثير الخلفية الثقافية والحضارية التي نشأ فيها الأفراد، فضلا عن مؤثرات الأوضاع الطبقية والمكانة الاجتماعية لهم في المجتمع. الا اذا كان التعبير عن الألم عيبا في بعض الثقافات ونقصا في الشخصية. وبالتالي يظل المرض أمرا خاصا بالفرد المريض ومجموعة من المحيطين به. لاسيما الأمراض المرتبطة بالنواحي العصبية والنفسية كحالات الصرع والإكتئاب.
لذا فإن إغفال بعض الأبعاد الاجتماعية والثقافية للمريض من ناحية بعض الأطباء يجعل الكثير من المرضـى يتركون العلاج الطبي إلى العلاج التقليدي والشعبي لقدرته على التعامل مع تلك الأبعاد. وتعامل الطبيب مع المريض على أساس أنّه مريض وليس كائن اجتماعي، وفرد في جماعة يجعل العلاقة بينهما تأخذ طابعا وظيفيا تغفل معه الأبعاد الاجتماعية والثقافية للمريض.
أما المعالجون الشعبيون فإنهم يتعاملون مع المريض على أنه مجموعة من المكونات الثقافية والاجتماعية وهو الأمر الذي يفسر لنـا سبب استمرار العلاج الشعبي بشكل عام حتى وقتنا الحالي في اليمن وغيرها من الأقطار، بالإضافة إلى رسوخ بعض المفاهيم الخاصة التي تعمل على طرح تفسيرات خاصة بالمرض تتناسب مع مستويات الوعي الخاص بالمرض والعلاج، عكس الطبيب الذي يتعامل مع المريض على أساس أنه مجموعة من المكونات العضوية البيولوجية، كما أن الثقة والاعتقاد المتبادل بين المريض والمعالج من الأسباب الدافعة إلى اللجوء إليه طلبا للشفاء من بعض الأمراض. بالإضافة إلى أن هناك عدداً من شبكات المدلولات الثقافية والاجتماعية المفسرة لمرض ما داخل الإطار الثقافي الشعبي نفسه، أي أن النظرة للمرض والأساليب المتبعة في علاجه، يمكن أن تختلف وتتنوع داخل المجتمع الواحد. وإن كان يوجد في ثقافات جميع الشعوب أساليب علاج غيبية تستعين بها، وتستخلص من بينها ما يمكنها من المحافظة على حياتها ومتابعة نشاطها وتراثنا اليمنى يزخر بكثير من ذلك، و يُزوَّدُ من يعتقد بها بوسائل مختلفة لمواجهة مشكلات مرضية لا يجد أصحابها طرقاً أفضل لحلها بحسب مورثاته الثقافية في هذا الإطار.
وترتبط بالمكونات الثقافية للمجتمعات، كالمفاهيم المرتبطة بالمعتقدات العلاجية، التي ترجع الكثير من هذه الأمراض إلى عدم التوافق بين إلحاح الرغبات والميول الفطرية. وبين ما يتطلبه المجتمع من تضحية في سبيل وحدته وسلامته. ومرد ذلك منشأ الصراع النفسي الذي يعد الخطوة الأولى في تكوين النفس المريضة في حالات لاشعورية من القلق والوسواس الذي يعد الزار [مثلا] التعبير المرضي لهذه الحالات. من ذلك تأتى أهمية من يدعون أن لهم ارتباطا بعوالم الجن والشياطين من المعالجين. تلك الأهمية التي ترجع إلى جوانب الضعف الأساسية في حياة المجتمع وثقافته، خصوصا المتعلق منها بجوانب الصحة والمرض وتجنب الإصابة. وكذا بعض الأساليب التي تفسر بعض الإصابات المرضية.
ولعل التعبيرات عن إشباع الدوافع المقهورة يكتمل بالتحرر من قيود العادات والتقاليد الاجتماعية دون عقاب أو تجريم سواء من الأسرة أو المجتمع. ويعد العلاج بالطقوس شكلا من أشكال هذا الإنعتاق المتمثل في حرية الحركة كما في الرقص والغناء وفي جلسات العلاج الزار [مثلا] وملاذاً من الضوابط الاجتماعية المتغلغلة في الثقافة الشعبية من عادات وتقاليد.
بالإضافة إلى أن الاعتقاد المسبق بالجن والشياطين وتأثيرهما السيء على حياة الأفراد والتدخل في شؤونهم، من الأمور الهامة في هذا الجانب، خصوصاً من الناحية الصحية، حيث ينتشر اعتقاد شعبي مفاده أن كلَّ شخص يصاب بانهيار عصبي، أو فقدان للذاكرة إنما يكون هو من فعل الجن والشياطين الذين يدخلون في جسم الإنسان ويجعلونه على هذا النحو، وغالباً لا يجد الأفراد أي تعليل لهذه الظواهر المرضية غير هذا الزعم، بالإضافة إلى ذلك فإنهم ينسبون كلّ تصرفات المريض وسلوكياته الغريبة، ليس إلى المريض نفسه وإنما إلى الجن والشياطين، ويكثر انتشار مثل هذه الاعتقادات بانتشار حالات القلق والاضطراب والشعور بالضعف والعجز عن مواجهة مشكلات الحياة ومخاطرها الصحية. وفي هذه الحالات يستخدم المعالجون التمائم والضرب المبرح للمريض والرقص، في محاولة لطرد الجن والشياطين من جسمه كوسيلة للعلاج، بالإضافة لمجموعة من الأساليب الأخرى التي كـرستها وتكرسها الثقافة الشعبية. كالحجامة، والكيّ، والرقية، والفدية (راجع1).
والثقافة الشعبية تبرز لنا مجموعة من تفسيرات المرض تلك التفسيرات التي ترجع المرض إلى قوى خارقة مما يهيئ الفرد لتقبل الأساليب العلاجية الشعبية التي تخلق لديه قناعات تؤدي إلى شفائه أحيانا من الأمراض ذات المنشأ النفسي وتساعده على التكيف من جديد مع بيئة الاجتماعية خصوصاً في الحالات المرضية التي لا يتمكن فيها الفرد من الحصول على إجابات شافية لبعض التساؤلات حول أسباب المرض.
وفي حالة العجز عن الحصول على إجابات شافية يستعير الأفراد بعض التفسيرات من المخزون الثقافي الذي يعمل على إيجاد قناعة لدى الإنسان بأسباب المرض وبالتالي التعامل مع نمط معين من العلاج، كالطب الحديث والعلاج بالأعشاب الطبيـة أو بطريقة السحر والعلاج بالعزائم والتمائم والعلاج بجلسات الزار وغيرها من الأساليب المعروفة في البيئة الاجتماعية (راجع 2).

ثانيا
الطب الشعبي امتداد الحاضر من الماضي:
يعرف الطب الشعبي بأنه مجموع المعارف والأفكار والأساليب والطرق الشعبية المتبعة في علاج المرض، سواء كانت مادية أو غير مادية، باستخدام المواد والنباتات المتعارف عليها محليا، أو باللجوء لأصحاب الكرامات والقدرات الخارقة.
ويرتبط مفهوم الطب الشعبي في اليمن بالبحث عن أساليب وطرق للشفاء من المرض لذلك (هو مجموع الممارسات العلاجية والوقائية لمرض أو مجموعة أمراض يستخدمها أفراد المجتمع وفق معارفهم الخاصة وبحسب تفسيراتهم لمسببات المرض ومصادره. ويمكن أن تكون غيبية طقوسي، أو باستخدام الأعشاب والنباتات الطبية (3/ص115).
2
ويقسم الطب الشعبي إلى ثلاثة أقسام، الأول خاص بمجموع الوسائل والأساليب التي تعتمد على الأعشاب والنباتات الطبية في علاج المرض، ويتم تركيبها بالاعتماد على الكتب القديمة والخبرة الخاصة بالمعالج. وكذا يقوم على تفسير المرض على أنه خلل عضوي، وبالتالي يتم العلاج بعيدا عن استخدام الجوانب الغيبية والطقوسية في العلاج. أما القسم الثاني فيضم مجموع الأساليب والوسائل العلاجية التي تقوم على استخدام السحر وبعض الطقوس الغيبية في علاج المرض، كما تعتمد على الأسلوب الإيهامي في العلاج وخلق قناعات لدى المريض بالشفاء من المرض. ويرجع مثل هذا إلى الاعتقاد المسبق بأن أسباب المرض قوي غيبية، (مس شيطاني، أو حالة تلبس). وفي هذا الإطار توجد عدة أساليب تتبع في العلاج، وفي الغالب ما تكون طقوس علاجية تختلف باختلاف المرض ومسبباته. أما القسم الثالث منه، فيعرف بالطقوس الوقائية، وهي طقوس يتبعها بعض الأفراد بهدف الحماية من مرض، أو خوف، أو من تعثر الحظ، أو عدم التوفيق في مسعى، كحمل الأحجبة للوقاية من (العين) أو القيام بإشارات معينة في حالة الوقاية من (البُداة ـ شبر الوجه ـ ).
وتجدر الإشارة إلى أن الطب الشعبي أو الطب التقليدي، أو الطب العربي، أو الإسلامي، مفاهيم تدل على علاج المرض بالأساليب والطرق الشعبية والتقليدية باستخدام الوسائل المتوفرة بالبيئة اليمنية والمعروفة محليا من قبل ممارسين اكتسبوا المهنـة بالخبرة أو التوارث، وعرفوا بأسماء وألقاب عـدة، كــ (السيد، والمنصوب، والولي، والصوفي، والشيخ، والعلقة.... وغيرها). وهي تدل على صاحب المهنة، وتشير بوضوح إلى الأساليب والطرق الشعبية والتقليدية في علاج المرض.
3
وما يمارس حاليا من أساليب وطرق شعبية وتقليدية في علاج المرض لا تعتبر وليدة الصدفة أو نتاج ثقافي واجتماعي معاصر، بل ارث حضاري وثقافي عمره عمر الإنسان نفسه، ومحاولته للبحث عن تخفيف الألم والشفاء من المرض، فالشعور بالمرض والألم دفع الى البحث عن علاج لهذا المرض، وقد كشفت لنا بعض النقوش اليمنية القديمة عن بعض الممارسات التي لا تزال تمارس حتى الأن، اذ عرض البعض منها للنذور التى وفاء بها أصحابها للآلة لأنها شفتهم من المرض، أو رزقتهم بأولاد ذكور أو تحفظ صحتهم، أو نذروا بأولادهم للمعبد ليكونوا في حماية الآلهة، وهو (ما يعرف بشراء الأولاد حاليا من أحد الأولياء). ومن تلك النقوش:
نقشٌ: يتقرب صاحبه للآلهة ذت حميم بابنه المسمي " إل ذرا" وابنته المسماة "آذنة" وكل أولاده وأمواله "بجاه" الآلهة ذت حميم (انظر مرجع4). وفي هذا النقش يحاول المُنذِرُ التقربَ إلى الآلهة التي منحته الأبنا، بنذر ابنه وابنته لها، بل كل أولاده وأمواله، كي تحفظهم الآلهة من المرض ومن كلِّ مكروه، (ولا تزال هذه الفكرة موجودة إلى الآن)، كأن ينذر أحد الأبوين، إنْ تحقـقَ له طلبه أنه سيجعل ولداً من أولاده في خدمة الوليِّ أو السيد، كما تقابل أيضا شراء الولد من أحد الأولياء كـ (ابن علوان) حاليا، أو غيره من السادة والأولياء. فالأسرة التي يموت أبناؤها الذكور في بعض مناطق اليمن تذهب إلى إبن علوان لشرائه منه، وعند الميلاد تخرم أذنه دليلا على أنه مُشترى.
ويتحدث نقش آخر عن أمَةِ "المقة" التي تقربت للآلهة بتمثال امرأة من البرونز كانت قد نذرتْ أنْ تتقربَ به لسيدهم "المقة" كي يشفي أمته "نضارة" من مرض مرضتْ به في عينها وحقا شفتها (4) الآلهة. ويدل هذا على ما كانوا يعتقدون مِنْ تدخل الآلهة في منح الصحة والشفاء من المرض، كما يؤكد على أنّ كاهن المعبد في اليمن القديم، لم تكن مهمة دينية فقط وانما كان يقوم بدور الطبيب والمعالج بالإضافة لبقية أدواره الأخرى. ولعل في هذا تأكيداً على أنّ الكاهن وسيطا بين المريض وصاحب الشفاء (الآلهة) وأنّ فكرة النذور والوفاء بها من قبل الناذر ليس بجديد على مجتمعنا اليمني المعاصر، وإنّما هي فكرة قديمة متأصلة في التراث، ولا يزال يتناقلها أفراد المجتمع حتى الآن. فالمعالج حاليا أيا كان حيا أو ميتا يقوم مقام الآلهة وسادن المعبد قديمـاً، وفي حالة تحقق الشفاء للمريض أو قضائه لحاجة المحتاج. فمن الواجب على صاحب النذر الوفاء به، وإلاّ تعرّضَ لعقاب أشد من الولي أو السيد المُنْذر له. ومثل هذا يُعَدُّ دليلاً على أنّ كثيراً من الممارسات العلاجية الشعبية حاليا هي امتداد للممارسات القديمة للإنسان اليمني القديم، في مواجهة المرض والرغبة في التخفيف من الألم.
وتتحدث مجموعة أخرى من النقوش (راجع 5) عن وفاء أصحابها، أو مَنْ تقدموا بشكرٍ للآلهة الأنها رزقتهم أولاداً ذكوراً، وأن تحفظهم من كلّ مكروه ــ وهذا تأكيد للأهمية الاجتماعية للأولاد الذكور منذ القدم وحتى الآن ـ ولكن طبيعة النذر هنا مختلفة، ففي النقشين المشار إليهما سابقا كان النذر بالأولاد أو المعادن، وهو عبارة عن وفاء به، أما ما في النقش الثالث فليس وفاءً بنذر وإنما هو شكر للآلهة لأنه رزقَ المنذِرَ بأولادٍ ذكور، لذا كانت أضحية من الغنم، وهذا يمنحنا دليلا آخر لتفسير وفهم تقديم الذبيحة طلبا للشفاء من المرض حاليا، فمرض الزار ـ مثلاـ يعالج بفدية.
الا أن بعض المتخصصين في النقوش اليمنية القديمة يرون أن هذه النقوش لم تشر لطرق وأساليب العلاج التى كانت تمارس في المجتمع اليمني القديم.
4
كان المصريون يعتقدون بأن المرض الذي لا يشفي يكون مصدره الأرواح الخبيثة، وأن هناك قوى شريرة تنشر الأمراض والأوبئة، وكذا اليونانيون يعتقدون بأن مرض (الجنان) ناجم عن لبس شيطاني، والبابليون يعتقدون بأننا محاطون بالأرواح من جميع الجهات، منها الخبيثة ومنها الطيبة، والطائفتان في حرب مستمر، وكانت جميع الأمراض تنسب إلى الأرواح الشريرة أو الخبيثة. كمـا وجد فـي التراث اليوناني والعربي الإسلامي من بعده ما يعرف بنظرية (الأخلاط والأمزجة) التي لا يزال بعض المعالجيين التقليديين يستخدمها حتى الان، والتي ترى أن الإنسان مكون من أربعة عناصر أساسية (التراب، والهواء، والنار، والماء) ومن الضروري أن تكون في حالة توازن ليتمتع الجسم بالصحة، أما فقدان التوازن، يؤثر على خواص الجسم (الدم، والبلغم، والصفراء، والسوداء) مما يسبب المرض، ومن خلال هذه الرؤية للكون والإنسان كان البحث عن العلاج، باستخدام المواد النباتية والحيوانية، وتحديد الانسب منها لكل مرض من الأمراض.
كما وجد ضمن العلاج العربي الإسلامي القديم ما عرف بالعلاج (بالاوفاق) والتي تقوم على أنِّ لكمال الأسماء مظاهر؛ وللأفلاك والكواكب أرواح، وان طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء فهي إذاً سارية بالتبعية في الأكوان. وبما انَّ للأحرف طبائع شانها شأن الكون، فهي تنقسم بحسب طبيعتها طبقا لقانون سُمّيَ بقانون (التكسير) إلى "نارية وهوائية وترابية ومائية " وهى العناصر الأربعة للكون، فالألف للنار والباء للهواء والجيم للماء والدال للتراب ثم نعود ثانية بالترتيب نفسه حتى نهاية الحروف الأبجدية ( أبجد هوز) وتتناسب الأعداد معها، فالألف يرمز إلى الواحد والباء إلى اثنين والجيم ثلاثة والدال أربعة ... والفاء مائة، وهكذا تربط هذه الأحرف والأرقام بالطبائع الأربعة. انطلاقا من أن لكل كوكب من الكواكب السيارة ـ وَفْقٌ ـ منسوبٌ إليه، ولكلّ حرفٍ من حروفٍ الهجاء ـ وفق ـ ولكل ـ وفق ـ تأثير يظهر منه بحسب تأثير الكوكب أو الحرف، وللحروف خواصّ وللأعداد أسرار فمن جَمَع بين الخواصّ والأسرار فقد أُلْهِمَ السرّ الأكبر (6/ص496-504، وكذا 3/صفحات مختلفة). ويعني هذا ان العلاج بالسحرية لا يخلو في بعض جوانبه من الاستعانة بالرياضية والفلك.
5
وفي جميع العصور لم يكن العلاج يخلو من استخدام السحر، فقد كان الطب مليئًا بالسحر والطقوس السحرية، وكانت التعاويذ والرقـى من الأدوات الناجحة التي يطبب بها المرضى وتطرد الشرور، ومن العلاج الذي يشفي الأمراض، وكان الأطباء يستخدمون في علاجهم أنواعا مختلفـة مـن الأعشاب النباتية مع تلاوة بعض الألفاظ والعبارات السحرية التي يتم ترديدها مرارا وقد تكون هذه العبارات مدونة في الدواء ويشربها المريض لتكسبه قوتها الشافية، كما استعملوا الأجزاء القذرة من الحيوانات في حالة بعض الأمراض كطرد الشياطين ذات السمات والخصائص الرديئة (راجع7ص74).
وفي حالة وجود مرض منسوب إلى القوى الخفية ولا يرون فائدة من الدواء فانهم يسعون إلى التخلص من تلك القوى الخفية بالتوسل بروح أقوى منها أو الالتجاء إلى أعمال السحر، وهو الأمر الذي جعل السحرة والكهان يقومون بأعمال الطب والعلاج. ولا يزال هذا الدور يقوم به بعض المعالجين للأمراض التي لها مصدر غيبي أو روحاني ناجم عن لبس شيطاني ويؤكد بعض أولئك الذين لهم معرفة بهذا النوع من العلاج أنّ بعض الأمراض النفسية سبق لهؤلاء المعالجين شرح طرق علاجها، وهم يرون أن الأطباء لا يستطيعون علاجها كونهم يتعاملون مع الجوانب المادية للجسم البشرى ومحاولة إصلاح الخلل العضوي. بينما هذا النوع من العلاج ينظر إلى الجسم البشرى على أساس أنه يتكون من جسد ونفس، وعليه فإن أمراض النفس لا تعالج إلاّ لدى من لهم معرفة بأصول السحر وقواعده وبطرق تكلم عنها الأقدمون وشرحوا علاجها وعللوا الأمراض بتعليلات كثيرة.
6
وتجدر الإشارة إلى أن مصادر المرض ترجع حسب مفهوم المريض الى المصدر (الغيبي دون سواه)، والمتمثل في الجن والشياطين أو ان جميع الأمراض نتاج لقوى غيبية ( فعنينة الرجل، وعدم قدرة المرأة على الإنجاب، وحالات الأمراض النفسية والعصبية، وعدم التوفيق في المسعى، بل وحتى كسور العظام أحيانا) ترجع أسبابها إلى تلك القوى التي تضمر الشر بالإنسان بصورة دائمة، نتيجـة لطبيعة العلاقة العدائية بينهما. وهو الأمر الذي يجعل من الصعب علينا الفصل بين الأمراض المختلفة، كون التداخل يوجد في الفهم والتفسير الخاص بأسباب المرض.
وتعد قضية المرض من أهم القضايا التي يتم إعادتها إلى قوى غيبية، أو إلى مجرات وكواكب بعيدة عنا. فكل من يصاب بالحمى ولا يعرف ما السبب؟ أو يصاب بالقيء ولا يستطيع أن يربط هذا بسبب محدد، فانه يرجع ذلك إلى فعل الأرواح الشريرة أو السحر أو إستحواذ الجان على جسم الإنسان و دخــــول جسم غريب فيه. هذا الفهم المرتبط بالمصادر الغيبية للمرض يجعل المريض يتبع الجوانب السحرية والغيبية في علاج المرض. لكن الفهم المنطلق من الأسباب العضوية للمرض والخلل في أداء العضو المصاب لوظيفته يجعل المريض والمعالج يسلكان سلوكا يهدف لإصلاح الخلل، من خلال إتباع مجموعة من الوسائل العقلانية في العلاج المعتمد على الأعشاب والنباتات الطبية أو العلاج لدى الطبيب.
لذلك فالظواهر التي لا تبدو أسبابها ملموسة في الوجود المادي يتم إرجاعها إلى وجود غامض ومسببات غير مرئية وغير محسوسة تخترق جسم الإنسان، اذ لم يكن أمامه غير الاعتراف بوجود قوى أخرى غير منظورة تحدث كل هذه الأشياء المؤثرة. ومثل هذا الاعتقاد توارثته جميع الشعوب بلا استثناء واستمر قائماً بذاته، أو مختلطاً بأفكار دينية حتى عصرنا الحاضر.
وهذا النوع من الاعتقاد والتفسير دفع بالبعض إلى سلوك يتناســب وهذا التفسير، فالأفراد الذين يعتقدون بأن القوى الغيبية من جن وشياطين تلعب دورا في وجود المرض، يلجأون إلى من له القدرة والسيطرة على هذه القوى لعلاج أمراضهم، بينما الأفراد الذين يعتقدون بأن أسباب المرض ناجمة عن خلل عضوي أو فسيولوجي أو باثولوجية كالجراثيم والميكروبات يلجأون إلى الطبيب في العلاج. وتعمل المعتقدات على تحديد نوعية العلاج الذي يلجأ إليه المريض، سواءً كان طباً شعبياً أو حديثاً. وأحياناً قد يدفع الاعتقاد باسلوب معين من الأساليب الشعبية إلى اتباعه وتفضيله من قبل المريض دون غيره من الأساليب (انظر4،5). وينظر بعض الباحثين العرب إلى أن التفكير العلمي وغير العلمي من حيث الوظيفة يستهدف تفسير الظواهر المحيطة بالإنسان في بيئته. بغية الوصول إلى الوسائل الفعالة التي تساعد على التحكم في البيئة وتأمين حياة الأفراد (9/ص40) داخل المجتمع.
ويقوم هذا التفسير للمرض ومسبباته على مفهوم خاطىء للعلية وهو الأمر الدال على عجز المفاهيم العلمية في تفسير أو حل بعض من مشاكل الفرد كون ذلك يعني فقداناً للأمل وسد المنافذ أمامه في إيجاد المبررات لما يحيط به. لكن التفسير الغيبي يخلق لدى الفرد نوعاً من الأمل النفسي في إيجاد المبرر لأي مشكلة يعاني منها وأملاً في حلها أو علاجها، كما يلجأ إليها عندما لا يجد اسلوباً أخر أفضل منها، فتكون المبررات الغيبية الميتافيزيقية نوعاً من المحاكاة النفسية والذهنية. وتفسيراً مقبولا لمثل هذه الظواهر، بالإضافة إلى إنه يعزز الثقة لدى أفراد المجتمع. وإن كان في نظرنا نوعاً من أنواع الوعي الإنساني، يحاول فيه الفرد إيجاد مبرراً أو تفسيراً لما يعتقد ان الطب الحديث غير قادر على تشخيصه وتشخيص مسبباته.
7
وإذا كانت الخرافة والاسطورة والاعتقاد بالجن والشياطين وقدرتها على اصابة الفرد بالشر تعد جزءاً من الثقافة العامة بالمجتمع، وانّ كل ما يحدث مرده الى عالم الغيب. فان مثل هذه الأساطير والسير تعمل على تكريس فكرة وجود عوالم غيبية لها سلطة الرقابة وقدرة الاصابة بالشر، وتتجلى مثل هذه القدرة بالشكل المرضي وتظهر على هيئة تشنجان عصبية وألآم عضوية لا تصيب الاّ من يحاول ان يسلك سلوكا خاطئاً ومعارضا لبعض القيم الاجتماعية.

ثالثا
أسس وأساليب علاجية لتفسيرات شعبية:
تعتبر التفسيرات الشعبية للمرض دعامة أساسية يعتمد عليها الباحثين في إصدار أحكام تقوم على رفض التراث الخاص بالعلاج التقليدي لدى الشعوب واعتباره نوعا من الشعوذة والدجل والخرافة وهو الأمر الذي نعتقد انه يقوم على الكثير من التجني والقوالب الجاهزة والمواقف المعدة سلفا من قبل الباحثين كل بحسب النظريات التي يتبناها.
فالمسح السطحي للمفاهيم والمواقف الشعبية تجاه فهم وتفسير المرض من قبل الباحثين يزيد من الغموض لدينا لأسباب المرض. في الوقت الذي قد يدفعنا إلى التأني والبحث المتعمق إلى الكثير من الحقائق العلمية ومعرفة الأسباب الجوهرية وراء حدوث مثل هذه الأمراض. والبعد الخاص بتشخيصها وطرق علاجها.
والموروث الثقافي يمنحنا تفسير يقوم على ان العين نوع من القوى الغيبية المسخرة لفرد ما يؤذى بها الاخرين وحتى نتجنب العين من الضروري مراضاة صاحبها او لبس حجاب ... الخ.
ومثل هذا الفهم الموروث ظل يورث من جيل لأخر مما عمل على إيجاد موقفين أساسيين تجاه العلاجات الشعبية، الأول: يقف مع هذه التفسيرات ويعمل بها، ويجزم بمصداقيتها ويحاول الاستفادة منها بين ان واخر، لكن جهل أصحاب هذا الموقف بالأسس النظرية والخلفية التطبيقية لمثل هذا يجعل ممارساتهم أكثر جهلا. والثاني: يرفض هذه الموروثات ويقف ضدها ويعتبر كل سلوك علاجي ينطلق منها نوع من الخرافة والشعوذة. وهذا الموقف أيضا ينم عن جهل أصحاب هذا الموقف بطرق وأساليب العلاج التقليدي نظريا وعمليا.
ومثل هذه المواقف خلقت قناعات خاصة لدى الجميع كل بحسب قناعته وبما يعتقد به. كما يدل على جهل أصحاب الموقفين بالتحليلات والنظريات العلمية الحديثة والتي تساعد في التفسير العلمي والصحيح لكثير من التفسيرات الشعبية للمرض. مما أدى الى عدم تجديد هذا الموروث، او العمل على تطويره مثل بقية العلوم الإنسانية الاخرى. أو إخضاعه للتجربة العلمية وبالتالي رفضه وفق أسس منطقية.
2
وربما نكون هنا قد خضنا في منطقة هي اقرب ما تكون الى" التابو" الاجتماعي متجاوزين خطوط كثيرة يرسمها علما الاجتماع والانثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي في نظرتهم للسحر (مثلا) وبعض أساليب العلاج الاخرى. وفي مناقشاتهم للقضايا الفكرية والمنهجية المرتبطة به وفي تفسيرهم لبعض السلوكيات التي يقوم بها الأفراد تجاه المرض بحثا عن العلاج.
وهذا الموقف من قبلنا لم يكن مصادفة، وانما جاء بناءا على قراءات متعددة ومتنوعة لجميع الاتجاهات ومختلف الدراسات في هذا الجانب منها الحديث والمعارض ومنها القديم المؤيد والمعارض ايضا، بعين فاحصة ومتجردة بهدف سبر أغوار الحقيقة الكاملة.
وكان أول ما شدنا النظر إلى السحر والتعامل معه من قبل العديد من الفلاسفة والمفكرين السابقين على انه علم، وتقسيمه الى السحر العلوي والسفلي، فالسحر العلوي علم يعتمد على الله وملائكته والجن الصالحين، وكذا أسرار شرعية اخرى، ويستخدم دائما لأغراض خيرة ، ولا يدركه ولا يمارسه غير الصادقين والذين يتعلمون من الحديث أدعية "جمع دعاء" تكفل اجابة رغباتهم . وكتابة الأحجبة للغرض الصالح بالتنجيم وبعلم أسرار الأعداد (10ص7). ولما كان السحر يرتبط ارتباطا وثيقا بعلوم اخرى لها مكانتها بين العلوم المعاصرة كالرياضيات والفلك، واشتغل به اوناس لهم مكانتهم وتأثيرهم الواضح في العلوم المعاصرة كارسطو وجابر بن حيان والكندي ومسلم بن احمد المجريطي... وغيرهم. فمن الضروري التعامل مع السحر بتجرد من الاحكام الذهنية المركبة والجاهزة مسبقا. ويمكننا عرض بعض الاستنتاجات حول العديد من القضايا المرتبطة بكتابة السحر واستخدامه على النحو التالي:
3
1- في حال كتابة السحر أو العمل في الحالات المختلفة، بقصد إصابة الاخر بالمرض أو تحقيق هدف معين أو شفاء الاخر من المرض أو إحباط لمسعى شخص.فان الهدف لا يتحقق منها الا اذا اتبع الممارس للسحر الشروط الخاصة بها أثناء الكتابة والتي تتمثل في:
أ/ إتباع الزمن الفلكي المحدد للكتابة، كاليوم والوقت والساعة.
ب/ استخدام المادة المناسبة للكتابة، كماء الورد "مثلا" واستخدام أنواع من البخور والطهارة وغيرها.
جـ/ الالتزام بالتكرار الخاص بالكلمات التي يتضمنها العمل والأشكال والأحرف الهجائية والأعداد المخصصة لكل عمل.
4
وتشير المصادر القديمة في هذا الإطار إلى ان للحروف الأبجدية روحانية خاصة تختلف من حرف لأخر وهذا الاعتقاد جعل المهتمين بهذا الجانب يربطون بين الحرف والمنزلة، فكل منزلة يقابلها حرف من الحروف، ومجموعة من الأرقام، ولما كان للحروف الهجائية روحانية خاصة وللأرقام أسرار خاصة أيضا، فقد تم الجمع بين الحرف والرقم بهدف الاستفادة من عملية التفاعل الناجمة عن اتحاد الحرف بالرقم.
وهذا التزاوج بين الحرف والرقم في نظرنا هو السر الكامن في استخدام بعض الآيات والتراتيل في العلاج دون غيرها مما يعني ان العلاج ليس نصا قرآنيا وإنما هو مجموعة من الحروف المتحدة مع مجموعة من الأرقام المساوية لها والتي تعطينا في الأخير رقما خاصا يتطابق فـي جميع النصوص المستخدمة بالعلاج. وهو ما يمكن ان يمنحنا تفسيرا واضحا في حالة التوصل الى مصداقية، لاستخدام المعالجين في مختلف الديانات لنصوص علاجية دون غيرها كل بحسب الديانة التي ينتمي إليها، كون المسألة العلاجية مسألة نص يتكون من مجموعة من الأحرف يقابلها مجموعة من الأرقام تتساوي في جميع النصوص المستخدمة في العلاج، سوءا كانت تراتيل سحرية ممن كانت تستخدم قديما، أو نصوص توراتية، أو إنجيلية، أو آيات قرآنية.
5
وفي العديد من الكتابات العربية والمأثورات القديمة يعتقد ان الكواكب السيارة لها روحانية خاصة تؤثر على المولود في البرج المرتبط بهذا الكوكب، ويختلف هذا التأثير من زمن لأخر بحسب حركته منذ لحظة الارتباط بين الكوكب والبرج والمنزلة وحتى مماته. وينعكس هذا على صحته وسماته الشخصية وكل مسار حياته الخاصة والعامة.
واذا افترضنا ان لهذه الكواكب روحانية ـ وفقا للكتابات القديمة ـ ولها تأثير فان هذا التأثير يتمثل في مقدار الجاذبية للأرض وكذا كمية الغازات المحيطة بالأرض والمناخ ودرجة الحرارة، بالإضافة إلى مختلف التفاعلات الطبيعية سواء المحيطة بالأرض أو التى بداخلها والناجمة عن حركة الكواكب ودورانها حول الأرض. وليس نتيجة لتأثير روحاني. فجسم الإنسان يتأثر بالقوى الجاذبة للموجات الكهرو مغناطيسية والتى تنظم حركة الكون بأكمله (11ص294).
وفي هذا الخصوص اثبت العلم الحديث مؤخرا وجود مثل هذا التأثير والذي ينبعث من القمر ويؤثر بدرجة واضحة وكبيرة على تصرفات وسلوك الإنسان، وان اكتماله يسبب لبعض الأشخاص اضطرابات في العقل اذ تكون تصرفاتهم اقرب إلى الجنون، مما قد يسببون لأنفسهم أو لغيرهم أضرار ودون ان يعوا ذلك، ومايلبث ان يعود الشخص إلى حالته الطبيعية بعد ان يغير القمر وجهته (راجع 11ص296).
وربما يكون الأمر في حالة "محمد" دليلا واضحا على هذا التأثير، فمحمد عسكري من بني مطر يصاب دائما بنوبات عصبية عند اكتمال القمر في منتصف كل شهر ولمدة يومين فقط ، وفي اليوم الثالث يعود الى حالته الطبيعية لكنه لا يعي ما حدث له ولا الحالة التى انتابته، ونتيجة لتكرار هذه الحالة بصورة مستمرة أصبح الأمر مألوفا لدى زملائه في المعسكر مما يجعلهم يستعدون له بالقيود والسلاسل الحديدية ابتداء من اليوم الـ 13 من كل شهر حتى لا يحدث ضررا بهم او بنفسه. وتحدث مثل هذه الحالة نتيجة لاكتمال القمر، والذي يكتمل معه المجال الكهرو منغاطيسي لدى "محمد" ويظهر التأثير على شكل نوبات عصبية، لاسيما اذا عرفنا ان تأثير القـمر على الإنسان عند اكتماله يفوق التأثير المنبعثة من قوائم كهرباء الضغط العالي بأربعة وثمانون مرة، لكن تفسير الأمر لدى العامة والمحيطين به يرجع إلى تأثير قوى خارجية تتمثل بتلبس الجن والشياطين له.
6
ان نظرية الأخلاط" الطبائع والأمزجة" تعتبر جزءا من تراث ونظريات علم النفس الحديث، وهى في الواقع فكرة قديمة أسسها وعمل بها المعالجون المعتمدون على السحر أو الطلسمات في علاج مرضاهم، وهذا يؤكد ان تراثنا في هذا المجال بحاجة لكثير من الدراسات المتجردة عن الأحكام السابقة باعتباره نوع من الشعوذة والخرافة ونفي لتراث إنساني كامل وإنما في إطار وضع فرضيات خاصة خاضعة للتجربة والتأكد من صدقها أو كذبها في ارض الواقع، وعلى ضوء المعطيات التى تمكننا من إصدار الأحكام بعد ذلك.
7
يمتلك بعض الأفراد قدرات خاصة مما يجعلهم متميزين بامتلاكهم هذه القدرات فالقدرة على روئية الماء في باطن الأرض، وكذا اختراق الجدران الصماء ومشاهدة ما بعدها وبدقة كاملة، انما هي قدرات خاصة بمركز الإبصار في الدماغ ويتمتع بها بعض الأفراد دون غيرهم. وليست ناجمة عن امتلاك قوى مسخرة لمن يتمتع بها من الجن والشياطين. ويؤكد "على الوردي" وجود مثل هذه الطاقة أو كما سماها هالة في جسم الإنسان يتمتع بها بعض الأفراد ويستطيع بها الفرد اختراق حاجز الزمان والمكان(10ص18) وان كانت موجودة لدى جميع الناس تقريبا، الا انها لا تظهر عند الجميع على درجة واحدة فأغلب الناس يملكون منها قسطا لا يكاد يحسون به (10ص 30). وقد اهتمت جامعة (ديوك) بدراسة القوى النفسية والطاقة لدى بعض الأفراد مما عمل على إثبات وجود مثل هذه القوى لدى البعض بنسبة مرتفعة عن غيرهم.
ولا يزال العلم غير قادر على معرفة كل الأشياء ولا يزال عاجز عن اكتشاف كل طاقات ومكونات الجسم البشرى والتى لم تدرس حتى الان. كما اننا لا نزال عاجزين كأفراد عن استغلال كل القدرات والطاقات التى يتمتع بها الجسم البشرى ولا نزال غير قادرين على استخدام أكثر من 18% من قدرات وطاقات الدماغ الإنساني عند اكثر الناس ذكاء وعبقرية. ومن الأمثلة التي صادفتنا في هذا الآتي:
1- طفل لا يتجاوز عمره سبع سنوات أصيب بنزلة برد وبارتفاع شديد بدرجة الحرارة، وأثناء ذهابه إلى الطبيب بدء يهذي ببعض الكلمات عن الماء والغرق وجريانه بغزارة. ظنت الأم أن ذلك بفعل الحرارة المرتفعة. الا أن الأمر تغير بعد تماثله للشفاء وصار حقيقة تلازمه بصورة دائمة كلما طلب منه ذلك.
فقد كان لارتفاع درجة الحرارة تأثير فـي تنبيه مركز الإبصار في الدماغ بحيث أصبحت قدرته تفوق قدرات الفرد العادي.
2- اما امتلاك هذه القدرات بفعل التدريب يتجسد في الحالات المدربة على عملية التخاطر عن بعد بين شخصين أو أكثر عن طريق إرسال رسالة ما لتصل في نفس الوقت للآخر كما أرسلت بالرغم من التباعد المكاني.
ان كثير من الأمراض يرجعها الناس لحالة التلبس، وهي الحالة التي يلبس فيها الجن الإنسان، أو يدخل فيها جسم الإنسان، وهناك نسأل عن الكيفية التي يحدث فيها ذلك؟.
في حال الإجابة من الضروري أولا العودة إلى مسألة الخلق والتكوين الخاص بكل من الإنسان والجن. فقد ذكر في القرآن الكريم {قال ما منعك ألاّ تسجد اذ أمرتك قال أنا خيرُ منهُ خلقتني من نَّارٍ وخلقتهُ من طينٍ (سورة الأعراف آية 12)} وقال تعالى {خلقَ الانسَـنَ من صَـلصَلٍ كالفخَّــار* وخلقَ الجانَّ من مارجٍ من نار (سورة الرحمن الآية13-15)} وقال تعالى { والجانَّ خلقنـَاهُ من قبلُ من نارِ السَّمُوم (سورة الحجر آية 28)}. ففي هذه الآيات تحديد من الله لطبيعة التكوين الإنساني من المادة والطاقة، والجان من طاقة فقط، والطاقة مادة محسوسة وغير ملموسة، أما الطين فيحمل الشيئين معا.
من ذلك تتضح لنا عملية التلبس بمعناها الحقيقي التي تبتعد عن عملية الإيلاج أى دخول الشئ في الشئ، وانما اختراق طاقة لطاقة أخرى أقل منها مما يؤثر على وظائف الأعضاء المكونة من المادة والمسيرة بالطاقة.
وفي الآية { الذين يأكلون الرِبواْ لايقومون الاَّ كما يقُومُ الذِي يتخبطه الشيطانُ من المس (البقرة الآية 275)} وقال تعالى {ان الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فاذا هم مبصرون (الاعراف آية 201)}، وفي الحديث النبوي { ان الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم}. وفي هذا دليل على أن الجن تمس الإنسان بضر هي تأكيد لفكرة الإصابة بالمرض من خلال التأثير على الطاقة الموجودة بجسم الإنسان، من قبل الطاقة المتحدة معها (طاقة الجن)، وهذا يؤكد لنا:
1- ان مسألة وجود الجن حقيقة واقعة، فاذا كنا نحس بأثر الشئ فلابد أن نقتنع بوجود المؤثر ذاته، فالكهرباء لا نراها لكن نحس بأثرها في حالة المس الكهربائي.
2- ان الطاقة لا ترى بالعين المجردة ولكن تقاس بالأثر الناجم عنها وخلق الجان من النار فقط هو استبعاد للمادة المجسدة، والتي قد تكون عائقا في عملية الإصابة، كونها تتطلب الإيلاج مما يعني الوضوح والبروز المجسد للإصابة، لكن الطاقة تستبعد مثل هذا الوضوح والاثر للإصابة في الجسم، ولا يبدو غير أثرها المتمثل فـي خلل اداء وظائف الجسم.
3- ان فكرة المس الشيطاني أقرب الى التصديق منها الى النفي والتكذيب، اذا ما تعاملنا معه وفق الفهم السابق للظاهرة.
8
وما يعرف بالعين الشريرة والتي تصدر عن شخص ما لتصيب اخر كان ولا يزال الاعتقاد بأنها نوع من أنواع الجن والشياطين المسخرة للمصدر. لكن تفسيرنا لهذه الظاهرة تؤكد على امتلاك البعض لطاقات خاصة يتم إصدارها في لحظات لتصل للاخر مما يعمل على التأثير عليه، وهى طاقة لا ترى بالعين المجرة، ولا نعتقد ان مركزها العين، وانما مركز الا بصار بالدماغ، وهى عبارة عن ذبذبات أو طاقات تصدر عن شخص ويستقبلها الاخر دون شعور أو إحساس بها من المصدر أو المستقبل (راجع12) . كما أثبتت الأبحاث الحديثة ان دماغ الإنسان يصدر أمواج كهربائية تختلف من شخص لأخر ومن وقت لأخر (10ص154) في كميتها وقوتها. وفي تجارب قام بها احد الباحثين الامريكيين في جامعة "كورتل" ذكر ان العين التى لها القدرة على الإصابة اذا حدقت في خلايا الخميرة فانها تتلفها، لوجود أشعة غير منظورة تنبعث منها وتؤثر في الخلايا، كما تنبعث الأشعة فوق البنفسجية من بعض المصادر وتؤثر في النبات والحيوان والإنسان على وجه الخصوص (10ص15). ويؤكد احد اليمنيين ممن يمتلكون القدرة على الإصابة بالعين ممن قابلناهم، يؤكد بخروج دائرة حمراء من عينه اليسراء تنطلق نحو الاخر لتلحق به الضرر .
وتعتبر مثل هذه الطاقة لدى بعض المخلوقات "كبعض الأسماك والثعابين" وسيلة دفاعية عن النفس ضد اى مخاطر فبعض الأسماك التى تصدر شحنة كهربائية تشل بها حركة من يهاجمها، وكذا الثعبان المعروف بذو الخطين، والذي يصدر شحنة كهربائية عند شعوره بالخطر كوسيلة دفاعية، هذه الشحنة قد تصيب الإنسان بحسب قوتها، اما بالعمى الجزئي أو الكلي، لكنها تفسر من قبل العامة على ان مثل هذه الثعابين ما هي الا نوع من الجن تظهر لنا على هذه الهيئة. والشحنة الكهربائية ما هي الا حالة التلبس لبني البشر من قبل الجن.
ووفقا لهذا فالعين ما هي الاصفة فيزيقية يتمتع بها بعض الأفراد بيولوجيا دون غيرهم، وترجع لامتلاك البعض طاقات كامنة في الجسم ترتفع نسبتها عند البعض عن الحد المعلوم عنها في الشخص الطبيعي. الا ان الموروث الثقافي ونتيجة لعجزه عن فهم هذه الطاقات واكتشافها جعل من يمتلك هذه القدرات في نظر الاخرين شخص له القدرة على امتلاك الجن والشياطين وتسخيرها لصالحه وانه يستمد قدرته هذه منها.
وقديما ارتبط وجود مثل هذه الطاقات لدى بعض الأفراد بالقوى الغيبية كالجن والشياطين. وربطت بالسحر والشعوذة، واعتبرت دليل على وجود عالم الروح أو ما يسمي بعالم ما وراء المادة (10ص28). وان كان في الحقيقة دليل على عجز العقل البشري عن إدراك ومعرفة مثل هذه الطاقة سببا في تفسير بعض الأحداث والحالات المرضية غيبيا.
9
وتعتبر قراءة الفنجان والكف وضرب الرمل نوع من الخرافة والدجل والشعوذة لدى غالبية أفراد المجتمع، في الوقت الذي نجد قراء ة الكف تقوم على معرفة الخطوط الموجودة في باطن الكف والأصابع وهذه القراءة تكتسب بالخبرة والاطلاع والتدريب.
لكن مصداقية هذه القراءة التى تشير إلى توقعات مستقبلية وأحداث يمكن ان تصادف الفرد، انما تقوم على دقة التدريب للقراءة وخبرة القارئ العملية والعلمية.
اما ما يخص قراءة الفنجان والرمل، فانها تقوم على استجماع القوى والطاقات العقلية التى تعمل على توقيف عملية التفكير الاعتيادية بهدف تلقي الذبذبات التى تمكن القارئ من كشف الحقيقة في لحظات من الصفاء الذهني التام (انظر 10ص169).

رابعا
وفي الختام فان العديد من الممارسات العلاجية التى يمكن وصفها بالشعوذة والخرافة تعد ناجمة عن جهل في الممارسة وعدم الاطلاع على أصول المهنة وقصور في تفسير الظاهرة. وان الكثير من الظواهر في جانب المرض والعلاج لا يمكن ان تكون خرافية وانما تفسيرها هو الخرافي والذي توقف عند حدود الأسطورة والتفسير الاسطورى دون اى تطوير، ونتيجة لجهلنا بالتفسيرات العلمية لها. ومن الضروري إخضاع مثل هذه الظواهر للبحث العلمي والمعملي، والابتعاد عن الأحكام المسبقة والجاهزة والتى تنطلق أساسا من مضامين الثقافة الشعبية وخصوصا من قبل المتعلمين.
2
ان مناقشاتنا الأولية لبعض الظواهر المرتبطة بالعلاج انما هي تفتيح لموضوعات للمفهوم ومعناه، والمفاهيم المرتبطة به، وتطوره، وكذا للعوامل الأساسية الـتي تقف وراء استمرار هذا النوع من العلاج، وأسباب اللجؤ اليه، ومن ثم التعرض لبعض القضايا التي تجعل من بعض المعالجين مصدرا من مصادر الهالة الاجتماعية. من خلال تمتعهم ببعض الطاقات والقدرات التي لا يتمتع بها الفرد العادي.
وتصوراتنا السابقة حول هذه الظاهرة لا تعتمد على الأسلوب القسري والإلغاء، أو القبول الكلي والارتماء بين أحضان الظاهرة بكل سلبياتها وشوائبها، وإنما بالمناقشة الهادئة والموضوعية.
ان دراسة ظاهرة العلاج الشعبي لا يتطلب منا الحدة والتعصب في اتخاذ المواقف تجاهه، بل يتطلب الإلمام أولا بالعوامل والأبعاد ذات العلاقة بهذه الظاهرة المؤثرة بصورة مباشرة على سلوك الأفراد. وتحدد مواقفهم تجاه هذا النوع من العلاج أو ذاك، لاسيما وان للأفراد مواقف متغيرة تجاه العلاج الشعبي، وهناك حقائق أو ظواهر فوق مستوى تفسير الإنسان لها، تدعم مواقف المعالج والعلاج الشعبي، وفي ذات الوقت تعد الممارسة العلاجية جزءاً من ثقافة متأصلة في المجتمع، وانعكاس لبعض المفاهيم الشعبية حول المرض ومصادر علاجية، الا أن عشوائية الممارسة من قبل المعالجين جعلت منه أسلوبا أقرب ما يكون للشعوذة والدجل.
والله الموفق،،،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر في مجلة شؤون اجتماعية، الشارقة، ع 69، 2007م.
1- أرمن شوبن، الطب الشعبي في الجمهورية اليمنية، ترجمة احمد الصايدي، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني، مجلة دراسات يمنية، ع13، 1983م.
2- ــــــــــــــ، جلسات الزار في تهامة، مجلة اليمن الجديد، صنعاء، مجلة شهرية، تصدر عن وزارة الثقافة،ع7، يوليو 1988م.
3- ــــــــــــــ، الثقافة الشعبية وعلاقتها بالمرض والعلاج في المجتمع اليمني المعاصر، دراسة سوسيو انثروبولوجية، رسالة دكتوراه،جامعة صنعاء، كلية الآداب، قسم الاجتماع، 2001م.
4- إبراهيم الصلوي، اللغة اليمنية القديمة، مسودة غير منشورة.
5- مطهر الارياني، نقوش مسندية وتعليقات، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني، 1990م.
6- عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، بيروت، دار القلم، ط6، 1986م.
7- محمود نصار، الأسرار الكونية في العلوم الروحانية، القاهرة، مكتبة الجمهورية، مجهول بقية البيانات.
8- عبد الله معمر، الطب الشعبي والتطور الاجتماعي في اليمن، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1999م.
9- نجيب اسكندر، رشدي فام، التفكير الخرافي، بحث تجريبي، القاهرة، مكتبة لانجلو المصرية، 1962م.
10- على الوردي، خوارق اللاشعور، لندن، اوراق للنشر، ط2، 196م.
11- سمير يحي الجمال، الطب الشعبي التقليدي، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1992م.
12- محمد غنيم، فاتن محمد شريف، السحر والحسد في المجتمعات الريفية، الاسكندرية، دار المعارف، 1998م.
* وللمزيد من المراجع والاطلاع حول العلاجات الشعبية في اليمن، يمكن العودة الى:
- نزار غانم، مصادر دراسة الطب البديل في اليمن، صنعاء، مكتبة عبادي، ط1، 2001م.
- عبد الله مـعـمـــر، النسق الصحي في اليمن، مجلة دراسات يمنية، مجلة فصلية، يصدرها مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، ع42، اكتوبر 1990م.
- Cynttia Myntti,.Medicine in its Social Context, Observations From Rural North Yemen. Thesis submitted for the degree of doctor of Philosophy, the University of London (London School of Economics and Political Science) 1983.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق