الا يكفي هذا الانحدار لإنقاذ جامعة صنعاء؟!!!

الجمعة، 4 يونيو 2010


جوانب من التفكير الخرافـي لدى الشخصية العربية
ـــ اليمن أنموذجاـــ

تعاني المجتمعات العربي بمختلف أبنيتها الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافـية، من التخلف والازدواجية والتداخل ما بين نمطين أو أكثر فـي شتاء المجالات والأنساق الاجتماعية وهو ما ينعكس بشكل مباشر وغير مباشر على الشخصية العربية.
وبما أن البنية الاجتماعية تلعب دورا فـي تشكيل الوعي الاجتماعي والثقافـي، فإنها فـي هذه الحالة تنتج شخصية ذات وعيا مزدوجا، وغير ثابت المعالم، كانعكاس طبيعي لبيعة التخلف والازدواجية التي تعاني منه هذه البنية ويغذى ذلك بعض المفاهيم والأفكار، والعادات، والتقاليد، المنبثقة عن عملية التراكم التاريخي للثقافة الشعبية فـي المجتمع، والتي تدخل مباشرة فـي تشكيل الوعي الاجتماعي. وتحت جزاءا هاما فـي تكويناته إلى جانب عدة عوامل أخرى خارجية وهو الأمر الذي نجم عن مجموعها حالة الازدواجية الثقافـية والسلوكية (1) التي تعاني منها الشخصية العربية. وتعمل على تكوينها المجتمعات العربية.
فالطبقات فـي المجتمعات العربية الحديثة لم تتكون من خلال عملية حراك اجتماعي وتباين داخلي، كما حدث فـي المجتمعات الغربية، وإنما تم تكونها من خلال استيراد أنماط وأدوار من الخارج، أو فرضت فرضا عن طريق النظم الاستعمارية، وفـي ذات الوقت لا تتشكل طبقات جديدة وناتجة عن تفاعل وتطور داخلي وإنما نجد الموروث الاجتماعي يتدخل فـي تشكيل الطبقات وتتعامل مع موروثاتها التقليدية ولا تستطيع التخلي عنها، كونها جزءا من البنية الاجتماعية ومورثوها الثقافـي.
وبما أن مجموع النظم والأنماط الاجتماعية، تتداخل مع بعضها لتكون شكل البناء الاجتماعي السائد فـي المجتمع، وحيث أن العلاقات التي تنشا بين الأفراد وتتفاعل فـي إطار الثقافة الكلية للمجتمع، فإنها تعد من الأسس التي تحدد وتشكل ملامح الشخصية العربية. وهي تتسم بوجود تشكيلة متداخلة من العلاقات الاجتماعية التي تفرضها التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية وتتعايش كثير من النظم الاجتماعية بجوار بعضها البعض فممارسة السحر والشعوذة فـي حالات المرض تتواجد إلى جوال النظم الاجتماعية الحديثة الأخرى. (2/ص126).
إما البنية الثقافـية داخل هذه المجتمعات فإنها تظم فـي طياتها عناصر تقليدية موروثة وعناصر حديثة، فالأولى ترفض كل جديد وأي تطور وتقدم لا يتفق وتوجهاتها الايدولوجية، تحت مبرر أن ذلك الغزو خارجي وخروج عن تراث الآباء والأجداد، والثانية ترى بأن الخروج عن هذا الإطار هو طريق التقدم ومسايرة العصر، وبالتالي اللحاق بركب الحضارة الحديثة بغض النظر، ان كان ذلك محاكاة للحضارة الغربية الحديثة أم لا. وفـي هذه الحالة تكون الأنماط الثقافـية السائدة متناقضة ومتداخلة، فالأفكار والمعتقدات التقليدية التي تعتقد بالسحر والخرافة والعوالم الغيبية متواجدة، إلى جانب المعتقدات الحديثة والمعاصرة، والأفكار اللبرالية. وتلعب دورا فـي تكوين شخصية الفرد. فالفرد يولد وينشأ فـي ظل عادات وتقاليد وقيم اجتماعية متخلفة يتشربها من بيئته الاجتماعية دون اذن منه، بل تفرض عليه فرضا من قبل المجتمع الذي يعيش فـيه. وقد يكتسب بطريقة عمديه مجموعة من القيم والثقافات من بيئات ومجتمعات أو جماعات أخرى عن طريق الاتصال بها والتعامل التعامل معها أو العيش فـي ظلها بصورة مؤقتة لسبب من الأسباب.
وتعد الأمية من السمات البارزة التي تعاني منها المجتمعات العربية، فانتشار الأمية والإيمان بالغيبيات ووجود موروث ثقافـي متخلف فـيه الخرافة جانبا كبيرا فـي حياة الفرد، بالإضافة لتكريس الأسرة لأساليب الحياة التقليدية والغيبية، وإعطائها الأهمية فـي الحياة اليومية، فشخصية الفرد تتكون فـي كثير من جوانبها من تأثير الأسرة. عن طريق نقل العديد من وقيم المجتمع وأنماط السلوك إلى الفرد. ويشير أحد الباحثين إلى أن القيم المسيطرة تظل تلك المتصلة بالحياة العائلية الأبوية (6/ص714). والتي تتدخل بشكل قوي فـي تحديد نوعية وملامح الشخصية، وقد يكون دورها أقوى تأثيراً من التعليم فـي حالات عدة، إذ تعمل الأسرة ممثلة بكبارها على تكريس جوانب معينة من الأفكار والمعتقدات والمواقف تجاه بعض الظواهر والقضايا الاجتماعية، والتي بدورها تعمل على تشكيل معتقدات وأفكار الشخصية. ومن المعروف أن الجماعات المرجعية تؤثر على أعضائها خصوصاً النشء منهم وتفرض عليهم سلوكيات وقيم اجتماعية وثقافـية توجههم نحو نمط معين من التفكير. كما أن أسلوب التعليم يعتمد على التلقين وليس الإبداع، ومثل هذه العوامل تدخل فـي تكوين الشخصية وتحدد ملامحها الفكرية، وطريقة تفكيرها ومواقفها إزاء بعض القضايا.
وبما أن الثقافة تتضمن الأنماط والقيم والقواعد والأعراف والتقاليد وهي عبارة عن مجموعة من المعارف والاعتقادات والقيم والأخلاق والعادات التي يكتسبها الفرد من المجتمع او الجماعة التي ينتمي إليها، كما أنها الانعكاس الذهني لتعامله مع الطبيعة والمادة عبر تاريخه الطويل فإنها تعبير صادق عن أسلوب الحياة فـي المجتمع وانعكاس له. ومكون أساسي للشخصية، وحيث يعد التراث بكل مضامينه جزءا من الثقافة، ولا ينفصل عنها بأي حال من الأحوال، حتى تلك الجوانب الخرافـية والميتافـيزيقية، والثقافـية. وبهذا المعنى تعد الثقافة مستوعبة للتراث، ومن خلالها يتم التفكير بمستقبل أي مجتمع من المجتمعات. وعادة ما يتم بروز جانب الموروث الثقافـي ويصبح مسيطرا فـي حال الانكسارات الحضارية، ففـي الفترات التي يصاب بها المجتمع بانحطاط أو هزيمة وتقل المؤثرات التي تعمل على تطور الوعي الاجتماعي وبلورته، يعود المجتمع إلى استهلاك الصيغ الاجتماعية والثقافـية الموجودة دون غيرها، أي العودة إلى الماضي والميتافـيزيقا الأسطورة والخرافة ليكون منها دليلاً لوعيه الاجتماعي، متوقفا بذلك عن أي إنتاج لوعي جديد بل يعمل على خلق مثل عليا ونماذج للسلوك تقف خارج الواقع (3/ص113). فالتراث جزءا لا يتجزأ من التاريخ وعندما تفكر الشعوب بتراثها إنما تفكر بثقافتها المكتسبة عبر التاريخ ولذلك يبقي هذا التراث قوة دفع نحو المستقبل إذا ما احتفظنا قدرتنا على الاستقلال التاريخي(4/ص29).
وهذه العودة لاستهلاك الصيغ الجاهزة والموروث الداخلي يعد أحيانا وسيلة للهروب من الحاضر وصرخة احتجاج ضد أي تقدم تقني يحدث فـي المجتمع، وفـي نظر البعض طغيان ضد مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية. كما يعد صرخة احتجاج ضد الغرب الأقوى والأكثر تقدماً. ونتيجة لفراغ مضمون الخطاب الثقافـي من محاولة سد الفراغ فـي هذا الجانب، بجوانب أكثر منطقية وإلغاء وتهذيب الجوانب الخرافـية فـي الثقافة الشعبية لسد هذا الفراغ. لذلك ينجم الصراع بين القيم التقليدية الموروثة والأخرى الوافدة، والذي ينتهي أحياناً بالتوفـيق بينهما وفـي أحيان أخرى إلى التلفـيق بين قيم متناقضة ومتصارعة(16/ص714). وبمقدار صراعها وتناقضها تناقض الشخصية ذاتها.
لكن "عامل"(5/ص149) يقف من التراث موقف طبقي ويختلف بالنظر إليه، باختلاف الطبق الاجتماعية التي تنظر إلى التراث من خلال ايديولوجيتها الطبقية، لان كل طبقة مسيطرة تفرض فكرها وايديولوجيتها على باقي الطبقات. مما يعني تدخلاً مباشراً فـي تكوين الملامح العامة للشخصية الفردية. عن طريق إملاء بعض الصيغ من قبل جماعة أو طبقة أو مجموعة من الأفراد وفرضها فـي الواقع فرضا.
ومما سبق نشير إلى أن الثقافة السائدة فـي المجتمعات العربية ثقافة مزدوجة العناصر، وغير متجانسة، فالثقافة التقليدية تتواجد إلى جانب الثقافة الحديثة، وفـي آن واحد داخل المجتمع، ولكل منها أنصار مروجين. كما أن لكل جماعة ثقافتها الخاصة المنعكسة عن البنية التي تعيش فـي ظلها هذه الجماعة لأن الثقافة – كما نعلم – انعكاساً للعالم المحيط بنا وخاصة من وجهة النظر المادية التي ترى أن الاعتراف بموضوع العالم وأِشيائه وظواهره باعتبارها المصدر الوحيد لمعارفنا(6/ص130).
ولكن قد يتساءل البعض عن سبب وجود بعض الجوانب الخرافـية فـي حياتنا تسيطر على تفكير ومعتقدات الأفراد والمجتمعات وتلعب دوراً فـي تكون ورسم ملامح الشخصية العربية؟
وفـي اعتقادنا أن ذلك يعود لمجموعة من الأسباب الذاتية والموضوعية، ومحاولة الإجابة على هذا التساؤل بشكل وافـي بحاجة لدراسة خاصة تعمل على الولوج إلى صلب المشكلة الحقيقية والنظر إلى الأمور بشفافـية أكثر. ولكن لا يمنع هذا من الإشارة إلى انتشار الأمية، وأساليب التنشئة ألوالديه والتعليمية فـي المراحل الأساسية، بالإضافة إلى ما تحمله المجتمعات من مخزون ثقافـي موروث من العصور السابقة، بالإضافة إلى أن التفكير العلمي فـي مرحلة من المراحل قد لا يستطيع أن يحل مشكلة ما لدى بعض الأفراد. وبتكرار محاولة البحث عن حلول فـي ظل الفكر العلمي، يعود الأفراد إلى البحث عن حلول فـي ظل مقترحات وصيغ المراحل الفكرية الأدنى من المرحلة الحالية (العلمية)، وهي مسألة طبيعية لسيطرة حالة الانهزام الداخلي وحالة العجز عن الوصول لإجابات أو تفسيرات عليمة لظاهرة ما، ففـي مثل هذه الحالة نجد المجتمعات والأفراد تلجأ لاستهلاك الصيغ السابقة والموجودة أصلاً فـي ثقافته الشعبية ومعتقداته المستمدة من المراحل الفكرية الأسبق على المرحلة العلمية (السحرية واللاهوتية) وهو الأمر الذي يؤكد فكرة الازدواجية الفكرية، ويدخل ضمن البناء الفكري للشخصية العربية بشكل عام.
وكما سبق الإشارة نميل إلى التأكد أن هناك ثقافة مزدوجة تتضمن عناصر تقليدية وحديثة، فالأولى.. ترفض كل جديد وأي تطور وتقدم لا يتفق وتوجهها الايديولوجي تحت مبرر أن ذلك غزو خارجي وخروج عن تراث الآباء والأجداد، والثانية ترى أن الخروج عن هذا الإطار يتم عن طريق التقدم ومسايرة العصر، وهذه الازدواجية ناجمة عن ازدواجية فـي البناء الاجتماعي بشكل عام. ومن الصعب علينا فـي هذه المجتمعات أن نجد فرداً أو مؤسسة أصولية بالمعنى الحقيقي، أو العكس. فكلاهما غير مكانه. (7/ص35)، وهذا التفكير غير السليم ما هو إلا نتيجة للحياة التقليدية، وكلما تعقدت أمور الأفراد وشتا بكت وازدهرت الصناعات، وتطور شتي أساليب الإنتاج المادية، وتقدم العلم أيضاً، انحسر نطاق التفكير الميتافـيزيقي، وأصبح المنهج العلمي هو الذي ينظم تفكير الفرد (8/ص41).
والمجتمعات العربية تعاني من الثقافة المزدوجة كإفراز طبيعي لدينامكية الصراع بين الحداثة والتقليدية والذي ينجم عنه (الصراع بين القديم والحديث) فوضى فـي النظم الاجتماعية والاقتصادية والثقافـية شاملة العادات والتقاليد والقيم. لأن مرحلة التحول التي نعيشها الآن قد خلقت قيماً وأنماط من السلوك تنتمي إلى الثقافتين معاً التقليدية والحديثة محاولة للتوفـيق بين متطلباتها فـي حين أنها لا تحقق وظيفة إيجابية بل سلبية ومدمرة أحياناً وخاصة فـي مجال التربية والسلوك الأسري (16/ص716). ولذلك هي بحاجة لدراسة شخصيتها الفردية من خلال تحليل العنصر التاريخي ودوره فـي تكوين الشخصية العربية الحالية.
كما أن الكثير من الدول العربية فـي برامجها التنموية، لم تحاول العمل على مس الجوانب المؤثرة فعلياً فـي تكوين الشخصية العربية الجديدة، مساً حقيقياً بحيث يعمل على تشكيل وعياً اجتماعياً يلغي الجوانب الخرافـية من المجتمع. كتطوير التعليم وجعله خلاقاً بدلاً من التلقين، وأتاحت الحرية ورفع الرقابة البوليسية عن وسائل الإعلام المختلفة، وتشجيع الكتاب والمبدعين مادياً ومعنوياً وإتاحة الفرصة لهم فـي الخلق والإبداع. ولا ننسى الإشارة إلى أن تطور أي ثقافة ونشأتها إنما تحدد طبقاً للظروف المادية للحياة الاجتماعية. وأن كان ذلك يجرنا لمشكلات أخرى تلعب دوراً فـي إيجاد ثقافات فرعية. كتلك الثقافات المرتبط وجودها بالبنية الاقتصادية، فالتطور الاقتصادي للمجتمع وزيادة أوقات الفراغ وغيره من النتائج يمارس تأثيراً متناقضاً على الحياة الثقافـية(3/ص41).
***
وفـي هذا الإطار انفصالاً للمجتمع اليمني عن بقية المجتمعات العربية خصوصاً بعد ثورة 1962م، واندماج اليمن فـي السوق العالمية، مما كان له تأثير على الأنماط الثقافـية التقليدية التي وجدت قبل الثورة وظهور أنماط ثقافـية حديثة بعد ذلك، وفـي نفس الوقت لم يؤدي هذا الاندماج إلى القضاء التام على الأنماط والأساليب التقليدية قضاء تاماً، بل ظلت متعايشة بجوار الأنماط والأساليب الحديثة التي دخلت نتيجة لهذا الاندماج. ويرجع ذلك إلى تلك السياسة التي كانت تتبع من قبل الحكومة الأمامية، وثانياً إلى القصور فـي برامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية للحكومة الجمهورية. ويمر المجتمع اليمني كغيره من المجتمعات النامية بمرحلة تحول من التقليدية والانغلاق والاعتماد على عناصر الثقافة الموروثة إلى مرحلة التحديث ومحاولة استيعاب الثقافة الحديثة وإعادة صياغة الحياة الاجتماعية وفقاً لعناصر ومتطلبات تلك الثقافة أو التكيف مع متطلباتها(16/ص715).
فالثقافة التي كانت سائدة قبل 1962م لم تكن نتاجاً لعامل خارجي، أو صدام بين ثقافتين إحداهما وافدة متطورة والأخرى محلية، بل نتاج لبنية متخلفة منعزلة وهامشية عكس الذي حدث بعد ثورة 1962م (الاتصال بالعالم الخارجي) والتي لم يستطيع المجتمع استيعاب التطور الاجتماعي والاقتصادي المرافق للانفتاح، فظهرت ثقافة مزدوجة كانت بدورها نتاجاً لصدام بين واقعين مختلفـين، الأول يمني يعاني من العزلة. لا يتجاوز معرفة الفرد الحدود الضيقة للبيئة والعصبية التي يعيش فـيها. والثانية وافدة أكثر رقياً وتطوراً لا يستوعبها الفرد. وهذا الصدام خلق حالة من الازدواجية الفكرية التي تعيشها اليمن حالياً. فالإيمان بالغيبيات وما وراء الطبيعة والاعتقاد بالسحر والجن والشياطين وقدرتها على الإصابة بالشر، إلى جانب الإيقان بقدرة الإنسان الصعود إلى الفضاء الخارجي...الخ. خلق تناقضاً وصراعا داخليا لذات الفرد. لذا ظلت الأسطورة والميتافـيزيقيا جزءاً هاماً من المكونات الثقافـية للمجتمع اليمني بعد ثورة 62م، بعد أن كانت المكون الوحيد للبنية الثقافـية قبل هذا التاريخ، والذي وصفه هاليداي بأنه مجموعة من الفلاحين الغارقين فـي دوامة مذهلة من الجهل والمرض والبطالة والأساطير القبلية (9/ص39)، ويرجع ذلك لوسائل نشر الثقافة التي يمكن تقسيمها إلى قسمين، قسم تعليمي تقليدي، يعتمد على العلوم التقليدية "أصول الدين، اللغة العربية" وآخر خرافـي يعمل بين آن وأخر على تزييف الوعي لدى الأفراد، وبث إيديولوجيات مقصودة تحافظ على الوضع القائم (10). من خلال إتباع سياسة بث الشائعات المكرسة للجوانب الغيبية، خصوصاً تكريس فكرة الاعتقاد بوجود الجن والشياطين وقدرتها على إصابة الفرد بالشر، وأن كل ما يحدث لنا من شرور مرضية وغير مرضية مردها إلى تلك القوة الخفـية، التي لديها القدرة على التدخل فـي شئون حياتنا اليومية. وكجزء من السياسة العامة لبث مثل هذه الأفكار الخرافـية كان الإمام يبدأ دعوته بإيهام الشعب بأنه يسيطر على الجن ويتحدث إلى الملائكة، وأنه يمتلك من الجن ما يمتلك من الإنس (11/ص49). حتى أن الإمام أحمد (1948 ـ 1962) لقب "بأحمد يا جناه" وكان يدعي أنه يستطيع معرفة أخبار كل المعارضين السياسيين له فـي أي مكان من أرض اليمن، بل وكل من يكن له العداء لمولاه حتى دون أن يصرح به، كما اشتهر بعلاج الأمراض المستعصية والتي هي نتاج للجن والشياطين.
كما ساهمت الإمامة فـي فرض الميتافـيزيقيا، إما قولا كبثها للشائعات والأفكار الغيبية، خصوصاً تلك المرتبطة بالإمام نفسه. أو فعلاً بعدم اهتمامها بإيجاد وسائل نشر الثقافة"مدارس، وصحافة، وإذاعة، وتلفزيون، ومكتبات عامة، وكتب مختلفة" وفرض العزلة الداخلية والخارجية على الأفراد، ويمكن إيراد بعض الأمثلة لدور الدولة فـي بث وعي زائف.
1- أعلن الإمام ذات مرة فـي إحدى جلساته أن السلطان الأحمر ملك الجن قد قتل وأن شعب الجن أصبح هملاً بدون سلطان يحكم تصرفاتهم ويقيد أفعالهم ويراقب جناياته(11/ص50). وإرسال الإمام برقيات إلى القضاة والأمراء فـي المناطق ليحذروا الجن فـي هذه الفترة التي ستشيع فـيها الفوضى حتى يتمكن الإمام من إحكام سلطانه عليهم، وتعيين سلطان جديد يحل محل القتيل، وعلى كل فرد أن يحصن نفسه من سطوة الجن بوضع القطران على ناصية الراس وباب المنزل (11/ص51). فما كان من الجميع إلا أن استجابوا لذلك.
2- كان الإمام أحمد يخلو إلى نفسه بعض الأوقات داخل القصر، ويشيع بأنه يتصل بالجن، ويصدر إليهم أوامره.
3- بعد مقتل الإمام يحي عقب حركة 1948م من قبل الدستوريين "المنادين بإيجاد دستور" بث ولي العهد أحمد فـي صفوف القبائل لكسب تأييده لاستعادة الحكم، بأن الدستوريين ينادون بإيجاد قرآن جديد، وفعلاً صدقت الإشاعات.
4- كان الاعتقاد بأن صنعاء تحرس بالأحجبة، وكان الشائع أن "باب اليمن" به حجاب إذا تعداه العدو أو الثعبان السام خر صعقا (12/ص74).
ونتاج لهذه المكونات الثقافـية وجدت الشخصية الخرافـية والتي ترى أن مصادر المرض يرجع فـي الأساس إلى المصدر الغيبي "الجن والشياطين" وقد ساعد الجهل وتدني الوعي وانتشار الأمية على استمرار وجود مثل هذه الشخصية التي تعتقد بإرجاع مصدر المرض إلى تلك القوى التي تتصف بالشر وتجلب للإنسان الأمراض والمصائب وسؤ الطالع، وتقوم بهذا الدور عن طريق النفوذ إلى جسم الإنسان. أو بالتواجد فـي المحيط الذي يعيش فـيه فتصيبه بأمراض عضوية مختلفة، كما تهاجم الأعصاب فتؤدي التشنجات والارتعاش، وعدم القدرة على الكلام (13/ص). وللحماية من هذه الأمراض يلجئون إلى إتباع وسائل وقاية تحمل على الأجسام ومنها ما توضع فـي المنازل.
والعين كعنصر من مكونات الثقافة تعد مصدر من مصادر الشر الذي يصيب الفرد، ومن يمتلك العين الشريرة إما أن يكون من أولئك الذين لهم صلة بالجن والشياطين، أو ممن يحقد على الآخرين، وهي مصدر للأمراض بمختلف أنواعها. وتدخل فـي مكونات الشخصية.
وإذا كانت الثقافة الشعبية قد أوجدت لنا مصادر مختلفة للإصابة بالمرض، وخلقت تصور شعبي يرجع الأمراض إلى قوى خارقة، مما يهيئ الشخصية لتقبل الأسباب المتعلقة بالغيب والشعوذة. وبالمقابل عملت أيضاً على إيجاد مصادر للشفاء من هذا المرض، فعادة ما تعمل مصادر الإصابة على تحديد مصادر الشفاء ونوعية العلاج. والذي يخضع لشبكة من العلاقات الاجتماعية المتعلقة بالبنية الاجتماعية للمجتمع اليمني، فالدين والسحر والخبرة الذاتية ونسج بعض القصص الأسطورية لبعض المعالجين والاحتماء ببعض رموز الصوفـية فـي اليمن (13/ص139) ورخص تكاليف العلاج التقليدي بالإضافة إلى فقدان الخدمات الصحية الحديثة، وتفشي الأمية والجهل جعلت من اليسر انتشار مفاهيم ثقافـية تعيد كل ما يصيب الفرد إلى أسباب غير واقعية، كما لعب الفهم الديني المغلوط لطبيعة العلاقة بين الإنسان والجن والشياطين(14/ص233) وإصباغها بالصبغة العدائية المشبعة بالخوف والكراهية (15ص/16). بالإضافة إلى الرؤى المختلفة والتفسيرات المتعددة لأسباب بعض الأمراض والتي لا تتسق والرؤية الطبية الأكاديمية حول المرض والعلاج.
وتلك هي مشكلة التفكير التي يعد جزءا من البنية الاجتماعية التي بثتها الفئة المسيطرة قبل الثورة ممثلة بالإمامة باستنادها لأسباب غير طبيعية وعلل لا ترتبط ارتباطاً أصيلاً بالمشكلة التي تحاول تفسيرها أو إيجاد حلاً لها. مما أثر على سمات وملامح الشخصية اليمنية فـي الوقت الحاضر.
كما تنطلق فكرة العلاج أيضاً من الأثر النبوي (لكل داء دواء) ومن ثم فإن كل مرض من الممكن شفاءه مهما كانت نوعيته، وفـي داخل هذا المفهوم نجد المعتقد الشعبي يفسح مكاناً كبيراً لمسببات المرض والتي لا ترجع إلى أسباب مادية معروفة أو لخلل فسيولوجي فـي جسم الإنسان، بالإضافة إلى الرؤى المختلفة والتفسيرات المتعددة لأسباب بعض الأمراض والتي لا تتسق والنظرة الطبية الحديثة للمرض وتلك هي مشكلة التفكير التي تعد جزءا من البنية الاجتماعية التي بثتها وعملت على تكريسها الفئة المسيطرة قبل الثورة، وعلل لا ترتبط ارتباطاً أصيلاً بالمشكلة فالتمييز بين المرض العضوي والنفسي وكذا مصادره يصعب تقييمه من قبل المريض بعزل عن أنماط الثقافة الشعبية. والتي لا تزال فكرة مرده إلى السحر والجن والشياطين حتى الآن مسيطرة فـي تفسير أسبابه، وهي الفكرة التي ينطلق منها المعالجين الشعبيين فـي المجتمع اليمني ويستخدمون المبررات لتكريس هذه المفاهيم باستخدام مجموعة من مفاهيم الثقافة الشعبية فـي تشخيصهم للمرض وعلاجه، وهو الأمر الذي يجد قبولاً لدى الأفراد نظراً لاتساقه مع فهمهم المسبق حول ذلك كاستخدام جلسات الزار، والسحر، والأحجبة. ولكن الفرد دوماً يتعامل مع مختلف الظواهر الاجتماعية بناء على خلفـيته الاجتماعية والثقافـية والمعرفـية، ويواجه المشكلات الصحية بناء على الفهم المسبق لهذه المشكلات، فهناك معتقدات ذهنية مسبقة. تدفع الإنسان إلى التعامل مع التفسيرات الغيبية، بالرجوع إلى الأرواح الشريرة وغيرها، وما دامت التفسيرات للأسباب غيبية، فإن العلاج دائماً يتناسب مع هذه التفسيرات. وان ذوي النزعات الغيبية والميتافـيزيقية ومن يميلون إلى التفكير الخرافـي يتجهون أولاً إلى المصادر الغيبية فـي علاج المرض. بينما الإفراد الأقربون إلى التفكير الواقعي يبدؤون بالاتجاه إلى الأعشاب والنباتات الطبية.
وعليه فإن ملامح وسمات الشخصية تحدد وفقاً للأفكار والمعتقدات التي توجد فـي الذهن وتتكون منها ثقافة الفرد والمجتمع، ومدى استيعاب الأفراد وقدرة تعاملهم مع أفكار ومعطيات المرحلة الحالية بكل متغيراتها الثقافـية والعلمية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق